"رجال من ظفار"

 

فاطمة اليمانية

 

قد مات قومٌ وما ماتَت فضائلهم

وعاشَ قومٌ وهم في الناسِ أموات.

(الشافعي)

 

***

قرأتُ كتابَ "رجال من ظفار" للكاتب العماني محمد بن علي البرعمي، وهو من الكتب التي تُجسّد تاريخَ رجالٍ من ظفار تفانَوا في خدمة الوطن، وأخلصوا في حبّه، رحم الله الأموات منهم، وأطال في عمرِ الأحياء، وأمدّهم بموفور الصحة والعافية. والكتاب كما قيل عنه، يعتبر سابقة في محافظة ظفار؛ بل أول كتاب يدوّن سيرةَ رجالٍ عاشوا على أرضِ ظفار في حقبة زمنية مهمة، رجال من صميم المجتمع الظفاري تميزوا بالكرم ِالبالغ والشجاعة وعلوّ الهمة من معظم مناطق ظفار بجبالها وسهولها وربوعها، ويستحقون الإشادة بهم، وتعريف الأجيال بمآثرهم، وأدوارهم البطولية في خدمة الوطن.

تميز الكتاب بلغته الشيّقة السَلِسة، وبأسلوب خاص مزج بين الحسّ الأدبي، والسرد الواقعي، والتاريخي، مع توافر الأدلّة، وذكر التواريخ، والأماكن، وأسماء الشخصيات المعاصرة لكل شخصية من شخصيات الكتاب. فالكتاب يسرد تاريخ رجال عاشوا على أرض ظفار، وانتموا لها، وكان لهم دور ملموس في المجتمع الظفاري، وتركوا بصمةً وأثرا، شهد لهم القاصي والداني، وعرفهم الناس بما تميزوا به من معاني الشهامة، والشجاعة، والتعاون والكرم والسخاء والجود، ورغم شظف العيش وقساوة الحياة ومعاناة التهجير والرحيل بسبب الثورة والحرب إلّا أنّهم كانوا أبناء الوطن وسعوا إلى احتواء الأزمات، ولم يثنِ عزيمتهم، أو يثبط همّتهم عسر ولا فاقة.

وكان لصاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد -رحمه الله- حظّا كبيرا في سيرة العديد من شخصيات الكتاب، وكشف لي -كقارئة- حكمته البالغة، وإنسانيته، وتعامله مع الثوّار بعطف ولين، وكيف كان يعفو، ويصفح عن كل ثائر أراد العودة إلى حضن الوطن.

وتجسّدت عبقرية السلطان الراحل قابوس بن سعيد- رحمه الله- عندما لم يقتصر عفوه السامي عنهم؛ بل ولّى معظمهم مناصب في الحكومة، وأوكل إليهم أدوارا مهمّة؛ إيمانا منه بأنّ هؤلاء الثوار الأشاوس لم يكونوا ليلتحقوا بالثورة إلّا رغبة منهم في العمل على نهضة الوطن ورفعته، وهذا ما حدث منهم في مناصبهم الجديدة، حيث بذلوا أقصى طاقتهم في العمل الدؤوب والإخلاص لعمان. ومما جاء في الكتاب:

"في يوليو من عام 1970، تغير الوضع بمجيء جلالة السلطان قابوس للحكم؛ فقد خرج جميع السجناء خلال أسابيع من تغير الحكم. خرج (أبو حمد) من السجن؛ ليشهد، ويرى، ويسمع ما يثلج الصدر... فقد تعهد السلطان الشاب بتحقيق كل ما قامت الثورة من أجله، وانفتحت أبواب الحرية للجميع داخل السجون، وخارجها. وبدأت مرحلة جديدة جمعت كلّ الفرقاء من أجل الوطن، والشعب تحت قيادة واحدة، ورجل واحد؛ يحمل في قلبه كل آمالهم، وأحلامهم؛ ليصبح فرداً منهم؛ فتآلفت حوله القلوب والنفوس".

ومن المواقف التي سردها الكاتب محمد البرعمي، وتدلّ على حكمة السلطان قابوس بن سعيد -رحمه الله- في احتواء الثوار، قصّة أحد الرجال واسمه (بن كانون)، حيث قال:

(وفي شهر أغسطس من عام ١٩٧٤م، زار صاحب الجلالة معسكر منطقة "رزات" حيث قابله مجموعة من فرقة قابوس، ورجال من بيت جعبوب، وطلبوا من صاحب الجلالة العفو السامي عن (بن كانون)، ورغم كل شيء، وعظم الجريرة التي ارتكبها إلا أنّ مزايا العهد القابوسي تجلّت في نقطتين مهمتين للغاية:

النقطة الأولى حكم المحكمة التي حكمت عليه بالسجن لسبع سنين فقط، ولو كان في دولة أخرى لعاملوه بمبدأ الخيانة العظمى، والإعدام! النقطة الثانية، تتجلّى في سماحة القائدِ، ورحمته بشعبهِ، وأبنائه حين أصدر عفوه الأبويّ عنه ليتمّ إطلاق سراحه، وعودته لصلالة في الحادي عشر من سبتمبر ١٩٧٤م، وليس هذا فحسب؛ بل تمّ إعادته لفرقة قابوس ضمن قوات الفرق الوطنية. هذه الحادثة كانت مؤثرة على (أبي خالد) الذي ظلّ يتمثل، ويردد طوال حياته حين يذكر اسم السلطان قابوس -رحمه الله-، فيقول بكل فخر :(ما ربت النساء مثل قابوس).

ومن الشخصيات التي لفتت انتباهي، شخصية (أبو كامل) -رحمه الله- الذي كان يهتم بالعلم والتعليم في أحلك الظروف، وأشدّها قسوة، وفي إصراره على تعليم أبناء الظفاريين في "حوف" حيث لا توجد مدارس آنذاك، وسرد الكاتب دوره، حيث قال:

(وهناك بادر (أبو كامل) بعمل لم يسبقه إليه أحد؛ حيث نصبَ خيمةً في موقع بجانب غدير ماء معروفة تسمى "جبينوت" في جبل حوف، وأنشأ أول مدرسة في ذلك الوقت. وكان هو المعلم الوحيد؛ فاجتمع حوله عشرات الطلاب، ووهب لهم كلّ وقته هكذا، وبدون مقابل. وبإلهامه القويّ تمكن من نشر التعليم. وكان في بداياته يصرف المزيد من الوقت، والجهد طوال اليوم من الصباح حتى المساء، وتمكن من إيجاد بضعة طلاب نجباء كانوا يقومون بتدريس المبتدئين، وبَقى على هذه الحال حتى افتتحت الجبهة مدرستها عام ١٩٧0م.)

ولا شكّ بأنّ صفة الشجاعة صفة غريزية في كلّ عربي، ومعظمهم يمتلك تاريخا من الشجاعة والقوة، والإقدام، والبسالة دون تردد وخوف، عدا عن طبيعة الحياة، والظروف المحيطة التي ساهمت في صقل شخصية الرجل الظفاري منذ الطفولة، وفي ذلك يقول الكاتب: (في تلك الجبال حيث يستمد الوليد صلابته منها بكل عنفوانٍ، وإباء. هناك يتربى الطفل كي يتجاوز مرحلة الطفولة في بضعة أعوام فقط؛ فلا مجال لحياة الدِعَة، والإغراق في رغدِ الدلال، والابتذال؛ فإمّا أنْ تكون رجلاً في مقدمة الصفوف، أو أنْ تتوارى، وتفسح الطريق للأحقّ منك).

وذكر العديد من الشخصيات المعروفة بقوتها وصلابتها، وأذكر على سبيل المثال لا الحصر، قصّة (بن طيروش) وشجاعته، وإقدامه في أصعب المواقف، حيث يتراجع الجميع، ويقبل في مواجهة الموت دون خوف أو تردد:

(في إحدى أيام العمل في محطة "رفحاء" تمّ اكتشاف قنبلة موقوتة تم زرعها في المحطة! فلم يقف في الصفوف الخلفية، ولم يغادر الموقع؛ بل شارك بنفسه في تفكيك العبوة الناسفة، وإبطالها مما استدعى تكريمه بمكافأةٍ، وخطاب رسمي من الأمير "نايف بن عبد العزيز" -رحمهما الله- وقد كان وزيراً للداخلية حينذاك.)

ومن الصفات التي تميّزت بها معظم الشخصيات، صفة السخاء والكرم، وهي إحدى الصفات المتأصِّلة في العرب، فهم يكرمون الضيف، ويجودون بما يملكون احتفاءً به، وبزيارته، فمعظمهم بذلوا أموالهم في سبيل الكرم، وإغاثة المحتاج، وجعلوا بيوتهم مفتوحة للزائرين والعابرين، وجنّدوا أنفسهم وأموالهم لخدمة الناس، فهؤلاء حقّا ترفع لهم القبعة احتراما. ومن القصص التي سردها -على سبيل المثال- قصّة (بن مقطوف) مع أحد طالبي الحاجة، حيث كتب:

(من حكاياته الجميلة؛ دخل مسجد "القنطرة" في حيّ الغربية في صلالة يوم جمعة، وبعد انتهاء الصلاة قام رجل غريب قادم من بعيد، وأخبر الناس بأنّه غارم، وركبته ديون، وأصبح يشكو الفاقة، والفقر، ويعيل أسرةً، وأطفالاً، ويطلب العون من الحاضرين. وتقدم الرجل الغريب لإحدى زوايا المسجد، وفرش عمامته على الأرض، وبدأ الناس يعطونه ما تيسر. أما (بن مقطوف)؛ فقد جلس في مكانه حتى خرج كل الناس من المسجد؛ فاقترب من الرجل الغريب، وسلّم عليه، وواساه ببضع كلمات، وأخرج من جيبه مبلغاً من المال، وقال للرجل معتذراً: أرجوك سامحني. وأقسَم له بأنّه لا يمتلك غير ما بيده.  وكان المبلغ ١٥٠٠ ريال؛ حصل عليها (بن مقطوف) في نفس اليوم حينما باع ناقة في السوق!)

ومن القصص التي تستحق الذكر، وتدل على الإيثار في العطاء والجود، قصّة (أبي معمر) مع أحد رفاقه، حيث كتب:

(ومن المواقف الطريفة التي مرّ بها في إحدى رحلاته لشمال السلطنة، كان هو ومجموعة من الشباب بسياراتهم، ومواشيهم في أحد الأسواق، وحصل حادث لأحدهم مما أدّى لخسارته كل ما يملك: السيارة، والمواشي. واجتمع الظفاريون على عادتهم في نجدة الملهوف، والغارم؛ ليساعدوا صاحبهم، فما كان من (أبي معمر) إلا أنْ تخلّى عن كل ما يملكه في تلك الرحلة؛ للرجل الغارم لوجه الله، وعاد لظفار ليبدأ من جديد!).

كتاب (رجال من ظفار) من الكتب القيّمة التي تثري المكتبة العربية والعمانية، وهو مرآة تعكس سيرة وحياة رجال من صميم المجتمع الظفاري العماني، وما واجهوه في حقبة زمنية مهمة من تاريخ عمان، ويستحقّون أن يكونوا قدوة في شجاعتهم، وبسالتهم، وعطائهم، وفي كونهم وجهة مشرّفة للوطن، ونماذج صادقة من نماذج البذل والعطاء إلى أقصى الحدود.

 

 

تعليق عبر الفيس بوك