د. عبدالله باحجاج
إنَّ إحداث تغييرات كبيرة في منهجية وثقافة العمل والتوظيف في بلادنا، لا تتم بصورة أحادية وانفرادية ومن قِبَل وحدة أو وحدتين من الوحدات الحكومية، وإنما كل الوحدات الحكومية معنية بذلك، ضمن خطة ممنهجة، وبآجالٍ زمنية مُحددة سلفًا، وبشراكة مسؤولة، بينما الانفرادية والأحادية ستعتبر- في هذه الحالة- خطوة راديكالية فوق الواقع، وستحظى برفض اجتماعي دون شك، والرفض ينبغي توقعه راديكاليًا كذلك، وهذه صيرورة ردة الفعل على الفعل، وكل من يتوقع عكس ذلك، فهو ينظر بعيدًا عن فهم البُعد الاجتماعي، وسياقات التطورات الحتمية.
وترسيخ السلطة المطلقة للإدارات الحكومية، لن يخدم الاستقرار في عصر الجبايات/ الضرائب، وسيوسِّع الفجوة الاجتماعية معها، وسيلغي أدوار مؤسسات دستورية في المشاركة في صناعة القرار، وديمومة الاستقرار، مثل مجلس الشورى، كما سيجمّد دور السلطة القضائية في ضمانة مدى شرعية القرارات والتصرفات الحكومية في مجال عقد الشغل للوظائف الحكومية الدائمة للعُمانيين، فكيف ينبغي أن نُحسن الظن في تطبيق قانون العمل المُرتقب المثير للجدل؟
هذا ردي على بعض الزملاء الذين يعتبرون هذا القانون بما فيه على وجه الخصوص البند "4" تطوّرًا في مسار صناعة الديناميكية للجهاز الإداري للدولة، وتأسيس ثقافة جديدة للعمل والتوظيف في بلادنا، وردي كذلك على مسؤول حكومي بارز يُطالب المجتمع بإبداء حسن النية للبند سالف الذكر الذي ينص حرفياً على الآتي: "يجوز لكل من الطرفين إنهاء هذا العقد قبل نهاية السنة التعاقدية بغير إبداء الأسباب بشرط إخطار الطرف الآخر بذلك قبل الإنهاء بمدة لا تقل عن 3 أشهر يبقى خلالها الطرف الثاني في الخدمة".
البند سالف الذكر، يجعل المواطن في عقد الشغل الطرف الأضعف أمام السلطة المطلقة للإدارة الحكومية؛ فلا مجال هنا للمواطن أن يطمئن لحسن نية التطبيق، وإذا كان بعض القانونيين قد أقروا بعدم قانونيته، فإننا نضيف كذلك بعدم شرعيته الدستورية؛ لأنه يتعارض مع فلسفة النظام الأساسي للدولة، وغاياته ومقاصده التي تدعو الحكومة إلى صناعة الاستقرار والطمأنينة للعمانيين داخل وطنهم، فهل العقود المؤقتة، ومنح الإدارات الحكومية سلطة إنهاء العقود دون أسباب، تصنع الأمان والاستقرار؟
لو تأملنا ما يحدث منذ سنتين من تغيُّرات وتحولات تقوم بها بعض الوحدات الحكومية، سنجدها بمثابة جزر مُنعزلة عن المنظومة الوزارية (ثقافة وآليات وميكانزمات)، فكيف سيقبلها المجتمع وهي تبدو أنها تستهدفه فقط دون غيره من أصحاب الوظائف العُليا؟ فبلورة ثقافة جديدة كأرضية لرؤية "عُمان 2040"، تحتاج أولًا إلى تغييرات بنيوية وفوقية في المؤسسة التنفيذية وأمانتها العامة- هيكلة وتقنية- فهما لم تطلهما عملية التحديث والتطوير حتى الآن، ولا تزالان تعملان بنمطية وثقافة الاقتصاد الريعي، فمنهما يبدأ التغير أولًا، وهما ينبغي أن يقودا صناعة التغييرات الأخرى.
ودون ذلك، يصبح كل شيء جديد يؤسس للمستقبل، يحمل في طياته الإثارة الاجتماعية، ويكون بمعزل عن رؤية شاملة وتكاملية لمجمل السياقات داخل الدولة. اللافت كذلك، أنه يُتَّخذ بصورة أحادية دون الشركاء الآخرين، ولن نعدد الحالات للاستدلال بها؛ لأنها أصبحت معلومة بالضرورة، وقانون الشغل الجديد أحدثها الآن، فقد جاء بثقافة ليبيرالية على واقع سياسي واجتماعي واقتصادي وتعليمي لم تحدث فيه تطورات تستوعب هذه الثقافة، ولن تُستّوْعَب وفق نموذج عقد الشغل الجديد للأسباب التالية:
- أنه يشرعن ظاهرة العقود المؤقتة التي كانت بمُبادرة من منتفعين كبار، وما زالت تدر عليهم الأموال من مستحقات وظائف العمانيين الحكومية والعمومية الدائمة.
- أنه يسلب المواطن حقه المشروع في الأمان الوظيفي والاستقرار الاجتماعي داخل وطنه، فهاجس أن تكون الجهة الحكومة بيدها السلطة المطلقة في إنهاء العقد ومتى ما شاءت ودون إبداء الأسباب؛ فهذا سيكون سيفًا مسلطًا على رقاب المُواطنين، وقد تستخدمه السلطة الإدارية بصورة تعسفية، فقد تتخلص من الموظف/ المواطن لأسباب مزاجية.
- أنه قد يجعل من المواطن/ الموظف في حالة تبعية خالصة لمسؤوله، حتى يُجدد له عقده باستمرار، وكل من يكون مُزعجًا إيجابيًا أو سلبيًا أو لاية اعتبارات أخرى، سيكون مصيره عدم تجديد عقده.. وهذه احتمالات تستشرفها المآلات.
- أنه يساوي المُواطن بالوافد.. وهذا من أهم مُتطلبات الليبرالية المطلقة الجديدة التي ترسخ المواطنة العالمية، وهي تتعارض مع أدوار ومسؤوليات الدولة الوطنية.
- أنه يُفرِّغ الوظائف الدائمة من مُسماها ما دامت تتجدد، وقد لا تتجدد لأسباب مجهولة، وهنا سيُولد قهر واستياء جديدين للجيل الجديد، وكفى بالبند "4" أداة للتخويف.
هنا أتساءل: أيُ جيلٍ جديدٍ يصنعه هذا القانون للوطن؟ وهل نعلم من جرائه أيُ مكونٍ ديموغرافي ستقف عليه بلادنا في أزماتها المختلفة- لا قدر الله- إذ ليس كل تفكير داخل غرف مغلقة ينبغي أن يتبلور دون أن يخضع لدارسة عميقة من كل النواحي الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وأبرزها هنا النتائج والانعكاسات وتأثيراتها على قوتنا الناعمة الجديدة. وهذا ينبغي أن يُنظر إليه في ضوء التأثيرات السلبية للضرائب والرسوم وبقية مفاصل السياسة المالية الحديثة على كل فئات هذه القوة التي تشعر من خلالها بالتذمر والاستياء من تقليص قدرتها المالية، وعدم استطاعتها تأمين احتياجاتها الأساسية طوال ثلاثين يومًا. وهنا لم يعد التساؤل الآن عن أيِّ جيلٍ يصنعه القانون الجديد، وإنما عن أيِ مجتمعٍ نريده للمرحلة المقبلة؟!