جمال بن ماجد الكندي
تطورت حالة الأزمة الأوكرانية بين الغرب وروسيا من خلاف سياسي حاول الجانب الروسي إنهاء الجدل فيه عبر ضمانات طلبها من الجانب الأمريكي والأوروبي بحيادية أوكرانيا العسكرية، وعدم دخولها إلى النادي الذي يُعادي روسيا منذ تأسيسه وهو "الناتو"، وقد فشلت هذه المفاوضات ما تسبب في فتح بوابة المواجهة العسكرية؛ لذلك قررت القيادة الروسية أن الحل لا بُد أن يكون جذريًا كما كان في الحالة الجورجية في عام 2008، وهذا ما نراه اليوم من خلال العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا التي بدأت قبل أكثر من 10 أيام.
هناك أسئلة كثيرة طرحت بعد بداية الحملة الروسية على أوكرانيا؛ منها: ما مبررات هذه الحملة وأهدافها وتبعاتها؟ وما مدى نجاح مخرجاتها؟ والسؤال الكبير الذي بات حديث المجالس من المتخصصين، وحتى الناس العاديين: هل أمريكا والغرب يجران روسيا إلى محرقة في أوكرانيا تستنزف فيها روسيا عسكرياً وسياسياً واقتصادياً كما فعل بالاتحاد السوفيتي- سابقًا- عبر "الحرب الباردة" التي أدت في عام 1989، إلى تفكيك الاتحاد السوفيتي وتربع أمريكا على عرش العالم، ليولد عصر "الأحادية القطبية"؟،
هذا ما سنحاول الإجابة عليه في هذا المقال.
قبل الجواب على هذه الأسئلة التي طرحناها لابُد لنا أن نذكر أهمية أوكرانيا بالنسبة لروسيا، وإذا عرفنا أهميتها سنجاوب على كل الأسئلة المطروحة علينا ومن أهمها لماذا قامت روسيا بهذه الحملة العسكرية على أوكرانيا وأهدافها الحقيقية؟
وتعد أوكرانيا دولة الصناعة النووية إبان الحقبة السوفيتية، ومحطة تشرنوبل شاهد على ذلك، وهي الدولة المهمة المصدرة للقمح، ويقال إن روسيا بدون أوكرانيا دولة كبيرة ولكنها مع أوكرانيا هي دولة عظمى، وتاريخيًا روسيا القيصرية لم تكتمل بدون أوكرانيا، وروسيا البلشفية لم تكتمل كذلك إلا بوجود أوكرانيا.
أوكرانيا تشترك مع روسيا بروابط ثقافية وعائلية منذ سنين فقد كانت جزءًا من الاتحاد السوفيتي السابق؛ حيث إنها كانت ثاني أقوى جمهورية سوفيتية بعد روسيا، فلها أهمية استراتيجية واقتصادية، ومنذ انفصال أوكرانيا عن الاتحاد السوفيتي تنافس الغرب وعلى رأسه أمريكا مع روسيا من أجل السيطرة عليها، فهي المنطقة العازلة بين روسيا والغرب، فالغرب يسعى لضم أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي لإبعاد هذا البلد عن السيطرة الروسية والأخطر من ذلك محاولة ضم أوكرانيا لحلف "الناتو" وهو الحلف العسكري المناهض لروسيا، وهو ما تعتبره روسيا "خطا أحمر" لا يقبل المساومة، وروسيا مستعدة لخوض حروب وليس حربًا واحدةً فقط من أجل منع أوكرانيا من الدخول لهذا الحلف.
هذه السياسة الروسية ذكرها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مقال نُشر له في يوليو 2021 يقول فيه "إن قيام حكومة معادية لموسكو على أراضي أوكرانيا بمثابة استخدام سلاح دمار شامل ضد الروس"، وقال "بأن روسيا وأوكرانيا كانتا بلد واحد وشعب واحد"، وهو يشير إلى دولة باسم "كييفان روس" التي كانت في القرن التاسع الميلادي ومنها تشكلت دولة روسيا الحالية وأوكرانيا، وبلا روسيا (روسيا البيضاء).
هذا الكلام يدل على أهمية دولة أوكرانيا بالنسبة لروسيا؛ إذ بينهم حدود مشتركة، وانضمام أوكرانيا إلى الحلف العسكري المعادي لروسيا يعني إعلان حرب؛ فهناك ثلاث دول تعد خطًا أحمر بالنسبة لروسيا وهي: أوكرانيا وبما أنها أصبحت لها حكومة- منذ "الثورة البرتقالية" وفرار رئيسها السابق الموالي لروسيا- قريبة من الغرب الأمريكي الأوروبي، كان المطلوب منها أن تكون محايدة في الشأن العسكري، أو سوف يتم التدخل عسكرياً لتغير الوضع القائم منذ 2004.
والدولة الثانية هي كازخستان، وما فعلته روسيا وحلفاؤها عندما بدأت في هذا البلد مظاهرات تطالب بتنحي رئيسها، وهو سيناريو بات معروفًا ومن أسلحة أمريكا الناعمة في الشرق الأوسط، ففشل هذا الأمر بالتدخل الروسي السريع الذي أرجع الأمور إلى نصابها وأبقى الحكومة الموالية لروسيا على هرم السلطة في كازخستان.
الدولة الثالثة هي بيلاروسيا (روسيا البيضاء) التي تلقى معاداةً من الغرب، فهي الحليف الاستراتيجي لروسيا في المنطقة.
وهذه المعطيات التي ذكرناها تبين لنا أهمية أوكرانيا بالنسبة لروسيا استراتيجيًا وعسكريًا واقتصاديًا، وعندما قامت الثورة البرتقالية كما كانت تسمى سنة 2004 وأطاحت بالحكومة الموالية لروسيا، قامت روسيا على الفور بالسيطرة على شبه جزيرة القرم المهمة جغرافياً واقتصاديا بالنسبة لروسيا، ودعمت وساندت الانفصاليين في شرق جنوب أوكرانيا ذوي الأصول الروسية.
من هنا نجيب على الأسئلة التي طرحناها، روسيا بدأت حربها على أوكرانيا بعد فشل الغرب في إعطاء روسيا الوعود التي طلبتها في تحييد أوكرانيا بعدم دخولها حلف "الناتو"، وهذا الأمر كان هو الاتفاق بين أمريكا والاتحاد السوفيتي قبل سقوط الأخير؛ حيث تعهدت أمريكا بعدم التوسع في الحديقة الخلفية لروسيا، ومن أهم هذه الدول كانت أوكرانيا. لكن الغرب توسع بحلفه العسكري "الناتو" وضم 15 دولة كانت في حلف "وارسو" القديم إبان الحقبة السوفيتية، وكان المطلوب أن تكون أوكرانيا محايدة، وأن لا تكون لها تطلعات بالدخول إلى حلف "الناتو"، وإذا انضمت فهذا يعني تهديدا مباشرا لروسيا؛ حيث إن صواريخ الناتو سوف تنصب على حدود روسيا، وهذا يعني الحرب بالنسبة للروس.
وفي عام 2014، نشرت صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية مقالًا تحت عنوان "كيف يمكن إنهاء الأزمة الأوكرانية"، بقلم ثعلب السياسة الأمريكية المخضرم ووزير خارجيتها الأسبق هنري كسنجر، وذكر عدة نقاط بعد سرد تاريخي عن العلاقة الروسية الأوكرانية، ومن هذه النقاط قال "يجب ألا تنضم أوكرانيا إلى حلف الناتو وقال "كنت اتخذت هذا الموقف منذ سبع سنوات". هذا الرجل المهم جدًا في التنظير للسياسة الأمريكية يعلم جيدًا أنَّ أي استفزاز لروسيا في هذا الأمر يعني الصدام العسكري.
وفي كلام مشابه قال العقيد دوجلاس ماكجريجور المستشار العسكري السابق لوزير الدفاع في إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في تصريح لشبكة "فوكس نيوز" "إن أعمال واشنطن والاتحاد الأوروبي هي التي دفعت روسيا للعملية الخاصة في أوكرانيا، وإن روسيا قامت بهذه الخطوة بعد رفض الغرب الاستجابة لمطلب الرئيس الروسي الذي حذر لحوالي 15 سنة بضرورة التوقف عن نشر أسلحة البنتاجون وقواعده العسكرية عند الحدود الروسية، مثلما رفضت الولايات الأمريكية نشر الصواريخ الروسية في كوبا"، في إشارة إلى أزمة الصواريخ عام 1962 بين أمريكا والاتحاد السوفيتي. وأضاف "لا يبغي للغرب أن يتدخل في الصراع بين روسيا وأوكرانيا ويجب علينا التوقف عن شحن الأسلحة وتشجيع الأوكرانيين على الموت في مسعى ميؤوس منه".
هنا يظهر التباين في معالجة القضية الأوكرانية بين الديمقراطيين والجمهوريين في الإدارة الأمريكية فالرئيس السابق ترامب تمثلت سياسته في احتواء روسيا وعدم الصدام معها؛ لأنه يعتقد أنَّ العدو الحقيقي لأمريكا هي الصين، وهو عكس توجه إدارة الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن؛ فالصين هي عدو كذلك، ولكن قبلها روسيا، ويرى أن "إضعاف روسيا يُضعف الصين".
الصدام العسكري حصل بين روسيا وأوكرانيا بسبب التلويح بدخول الأخيرة لحلف "الناتو"، وأوكرانيا "تُركت وحيدةً" تجابه الدب الروسي حسب قول رئيسها، والوعود الغربية بالمُساعدة كانت عن طريق فرض عقوبات اقتصادية على روسيا، وأمريكا وحلفاؤها الأوروبيون قالوها صراحةً لن نرسل أي جندي للقتال في أوكرانيا والاكتفاء بإرسال أسلحة دفاعية فقط.
إنَّ التفكير في إخراج روسيا من نظام "سويفت" للتبادل المالي بين البنوك العالمية ربما يكون أكبر الأسلحة الاقتصادية التي يراهن عليها الغرب، ومع ذلك ولا يستطيع إخراج كل البنوك الروسية من هذا النظام لأن بعض البنوك مرتبطة بمبالغ مالية لتوريدات روسيا لغازها إلى أوروبا، وهذه هي المشكلة والمساومة تبقى واردةً في هذا الشأن.
إذن هل الحرب الروسية الأوكرانية مصيدة جديدة نُصبت لروسيا لاستنزافها من قبل أمريكا وحلفائها؟ أم هي حرب روسيا التي من خلالها إذا خرجت مُنتصرة سواءً سياسياً أو عسكرياً ستضع النقاط النهائية على نظام عالمي جديد يقضي على نظام الأحادية القطبية الأمريكي؟
هذا سؤال كبير أعتقد أنَّ نتائج الأزمة الأوكرانية سترسم خطوط الإجابة، وستكشف أبعاد الاستراتيجية الجديدة، وروسيا مصممة على ذلك، لكن الغرب وأمريكا يعولون على "سيناريو أفغانستان" جديد في أوروبا، يُنهك روسيا عسكريًا واقتصاديًا، وهذا الأمر تُدركه "روسيا بوتين" جيدًا وتعلم أبعاده، فهي دخلت في حرب مع جورجيا قبل ذلك، ولم يستطيع الغرب أن يوقعها في "الفخ الأفغاني"، واستطاعت حصد مكاسبها من هذه الحرب، وبعد 10 سنوات أعاد الغرب نفس السيناريو في أوكرانيا، وكانت النتيجة ذهاب شبه جزيرة القِرم إلى الدولة الروسية.
واليوم كمُتابعين لما يحصل، ما علينا إلا أن نراقب ما سيحصل؛ لأن الذي سيحصل ربما سيغيِّر من النظام العالمي الحالي، أو يكرِّس نظام الأحادية القطبية بأشكال جديدة تكون أمريكية الصنع، والمصلحة دائمًا عندنا في بروز عالم متعدد الأقطاب، ففي ظل هذا العالم ربحنا معركة الكرامة العربية عام 1973؛ فهل تكون من مخرجات الأزمة الأوكرانية هذا النظام وتثبيته بشكل قاطع، خاصة عند العقل السياسي الأمريكي وحليفه الأوروبي؟!