المقامة الجليدية

 

عائشة السريحية

هأنذا التقي بك مجددا عزيزي القارئ، دون اعتبار لبعد المرافئ، فلا جعل الله بيننا عدو ولا مناوئ، ربما انتظرت مقالي، وأردت سؤالي، واستعلمت عن حالي، وربما أنت عابر سبيل، لا علاقة لك بالقال والقيل، أو باحث عن الدليل، وحيثما مال تميل، وربما لا تفهم ما الذي به أثرثر، أو ما أريد أن أمرر، أكان فكرا تافها أو مؤثرا، وتبقى أنت لنفسك المقرر.

لكني سأكمل حديثي معك فأنا لا أستطيع أن أسمعك،، وأنت حر في البقاء أو المغادرة، ولا تحسبن حديثي معك محاصرة، قبل فترة لا تُحسب بالساعات والدقائق، افترشت الذئاب النمارق، وكانت الغزلان للفهود تُعانق، وغابت الشمس في المشارق، وأبحرت في الصحارى الزوارق، فأنا يا عزيزي أحلم بالكثير، حين أتلحف السماء وأفترش الحصير، قيل لي ذات مرة إن الحالمين يسكنون فوق السحاب، ويزرعون الورد وسط الضباب، ويرون من قوس المطر العجب العجاب، وعودة لموضوعنا، فقد سهرت ليلتي أفكر في هجوم روسيا على جارتها أوكرانيا، وكيف قالت عليَّ وعلى أعدائيا، وسرحت في معنى الجار، ولم لا ينفع الحوار، ودخول المصائد في الثأر، ولعبة القط والفأر، ثم دخلت في نوم عميق، وما استطعت منه أن أفيق، فوجدت نفسي أرتدي ثوبا أنيقا، وأمامي رجل له خمس حناجر، يشحذ بألسنته الخمس الأظافر، ويتحدث بعدة لغات في تفاخر، كان يختبئ في غرفة جليدية، يتوسط جزيرة غير عادية، مغطاة بسحب كثيفة سديمية، مخفياً عن المارة لا يستطيعون رؤيته، يطوفون حوله دون أن يسألوا عن هويته.

لابُد أنك ياعزيزي ستسألني كيف قابلته إذن؟ وهو مخفي عن العين والأذن؟!

لقد تعثرت وأنا أمشي ووقعت على قطع لأحجية، وحلها هو الطريقة المنجية، استغرقت وقتاً لترتيبها، فقد كانت لعبة مفيدة، وطريقة مبتكرة جديدة، وحينها، تذكرت عبارة قالتها لي يوما جدتي: "لا تتركي مشكلة وراء ظهرك دون محاولة حلها، وإن لم تستطيعي فاقتدي".

كانت الأحجية جد غريبة، قطع مبعثرة لطاولة مستديرة، تحيط بها كراسٍ وثيرة، عليها أقوام أعينهم تصافح السريرة، وأقلامهم تخط مسارات طويلة وقصيرة، وبمجرد أن رتبت الأحجية القصيرة، نوديت لتلكم الغرفة المثيرة، فقيل لي إنني من المحظوظين، ابتسمت لجهلي اللعين، فأي حظ فاسق أثيم، يجرني لوضعي الأليم! ثم تحدثت حناجره، ومزقتني الأصوات على منابره، حاولت أن أفهمها ولم أفلح، وبعد فترة لا أعرف مدتها لم أفصح، فلا أدري هل أمسي ثم لا أصبح، وبدأت بعد هنيهة أفهم الإشارات، فحدثتني عن ما حدث وفات، ووعدتني تلك الأصوات، بأشياء كثيرة جدا، فتجاذبتني تارة جزرا وتارة مدا، وهددني بعضها عمدا، وبعضها أصمتني وقتا، وبعضها أقسم أن لا يدعني وحيدة وسيقف بجانبي أبدا، كان يتعارك مع نفسه الضائعة، وكانت حناجره جائعة، فما يلبث أن يطعمها المزيد، فلا تفرق بين الحرير والحديد، وكل ما أكلت تقول هل من مزيد، يالها من شرهة، لا تشبع؟ ولا بما تملكه تقنع، تصدر الضوضاء دون توقف، وتلتهم الوقت بلا تأفف، لذلك تحتاج المزيد من الطاقة، وتزرع في كل متحرك رقاقة، فاحتضنت الصمت في زاوية بعيدة، فقد كانت جدتي توصني بالصمت حين يكثر الكلام، أبعد نفسي تماما عن صراع الحناجر والملام، وخرج أولئك القوم من لوحة الأحجية العنيدة، وشقوا الطاولة الفريدة، التي كانوا يصطفون حولها، فكان منظرا مهيبا، فقد بدأوا العراك حديثا، فاشتد في الجليد الذوبان، ومايهمني هو أن أخرج أنا من تلك البقعة الآن، فقد اشتدت حرارتها، وتضاعفت أحجام مَرَدِتها، ومازلت ابتسم من بعيد، أدعو الله أن لا يجروني معهم لعراك شديد، فلا ناقة لي فيه ولا جمل، فأنا بالحداثة والإتيكيت منتشية، وأتطيب بروائح فرنسية، وأنتعل أحذية إيطالية، وأحمل حقيبة ألمانية، وهاتفي أمريكيا، ولدي مقتنيات من الصين واليابان وروسيا وتركيا، لدي كل ما أحتاجه، وأشعر بالرضا والقناعة، وكل مافي الأمر أني حاولت الخروج بشجاعة، بيد أن ثيابي تجعدت، واتسخ حذائي الأبيض الجميل، وأثناني دخول ريع من القبيل، يمشون الهوينا على استحياء، وتصافحنا بنظرات خرساء، ولسان حالنا يقول: اللهم سلم، فقد ضاق بنا الحال، جدتي كانت تقول: "إذا رأيت خصمان يقتتلان، فتجنبي إقحام نفسك في القتال".

لكن جدتي ماتت منذ أعوام طوال، مذ كان للناس طول بال، ولم تعرف ما الذي سيحدث للأجيال، وأطراف النزاع والقتال، ربما لو لم يكن لهم خصوم لقاتلوني، برغم أنهم يعرفوني، مسالمة لا أحب الجدال، والخشية أن يجبروني، في الحقيقة هم بارعون جدا، ومعجبة أنا بهم حقا، فحين يضعون لي لقمة لذيذة، يطعموني معها نكهة جديدة، فأصبح لإدمانها أسيرة، فقد أدمنت أشياء كثيرة وأقلعت عن أشياء كثيرة، ولا رغبة لي أن أخسر كل هذا وهذا، فقررت أن أصعد على الطاولة المشقوقة، وألقي عليهم خطبة خلوقة، ترتج لها أفئدتهم، لجادة الصواب اجتذبهم، وما إن تسلقت رجل الطاولة، وصعدت على ظهرها متفائلة، وتنحنحت قليلا لأجذبهم، وعبرت أول كلمة من بين ثناياي لأبهرهم، حتى قهقه القوم، ووقعت من على سريري وطار النوم، ومازالت القناة الإخبارية تبث الحرب الروسية الأوكرانية، فأغلقت جهاز التلفزيون، وتعوذت من الشيطان الملعون، وخفضت حرارة التكييف السقيم، وحمدت الله على العافية.