شكرًا.. أيتها الخسارة!

 

عبدالله الفارسي

 

"أنا كالأسفنجة.. امتص الحانات ولا أسكر". مظفر النواب.

 

أصبت بانتكاسة كبيرة قبل فترة قصيرة، شبيهة تمامًا بتلك الانتكاسة حين قررت دخول الجامعة، وشبيهة بنفس الانتكاسة حين قررت دخول كلية التربية، وشبيهة بذات الانتكاسة حين قررت الالتحاق بسلك التدريس، وشبيهة بنفس الانتكاسة حين قررت مُواصلة الماجستير، وشبيهة بنفس الانتكاسة حين قررت مُمارسة القراءة وتسلق الوعي واقتراف الكتابة!

كلها انتكاسات تتلوها انتكاسات، وظلمات تتراكم فوق ظلمات.

ليس شرطًا أن تكون الانتكاسات شخصية أو فردية؛ فانتكاسات المجتمع وسقطاته وتخبطاته هي أيضًا انتكاسات مؤلمة موجعة.. إنها تحطم البشر وتدفنهم في أعماق الأرض، وتجعل منهم ديدانا كبيرة تقتات من الحصى والتراب!

اتصل بي "صديق" عزيز لمُواساتي في سقطتي العنيفة تلك، كان متألمًا جدًا، ساخطًا للغاية، فكلمته بصوت الواثق، ونبرة الثابت، ونكهة السعيد، ونغمة الراضي. خففت سعادتي من حزنه، ولطفت ضحكاتي وفكاهتي من سخطه، فقال لي: توقعت أن أجدك منهارًا.. متشرذمًا.. مُحبطًا.. مهزومًا مُمزقًا!

قلت له: لا أقول لك إنني سعيد كما إنني لست بحزين! ولكنه "جمال" السقوط حين يكون قاسيًا درجة النزف والتهشم! لقد اعتدنا السقوط يا صديقي حتى أصبح جمع أشلائنا وتجبير كسورنا هواية دائمة ولعبة جميلة بهيجة.

بعد تلك "المكالمة" أرسلت إليه هذه الرسالة :

صديقي العزيز.. حياتنا ليست سعادة دائمة، ودنيانا ليست أغانٍ صادحة.. والحياة مليئة بالحفر والأحجار، والدنيا معبأة بالنكسات والانتكاسات والحفر، ويجب أن نتقبل كل مساوئ الحياة برضا ونرحب بقبحها وعفنها بامتنان.

يجب أن نتصالح مع قبح الواقع وقسوته، يجب أن نهضم سواد الواقع وكارثيته، يجب أن نصافح مشاكل الحياة بثبات واقتدار ونعانق مصائبها بيقين ورضا، يجب أن نتعلم الامتنان لكل ما تمنحه لنا الحياة حتى لو كانت فاجعة سوداء أو كارثة نكراء أو حادثة شنعاء!

وتأكد يا صديقي أنَّ خلف كل عاصفة هناك هدوء قادم، وبعد كل صخب وضجيج هناك سكون ونجوم وفرح قائم. تأكد يا صديقي أن وراء كل سقوط وفشل هناك نهضة وبهجة ونجاح.

طوال حياتنا نسقط ونتعثر، ولا أذكر أنني حققت حلمًا، لا أتذكر أنني قبضت على أمل، لا أتذكر أن أصابعي لامست أمنية. الجروح يا صديقي تملأ جسدي، والآلآم تستوطن قلبي وتسكن روحي، لكنني ما زلت أقاوم، وأصارع وأجدف أحيانًا مع التيار، وأحيانًا كثيرة ضده.

صديقي العزيز .. السقوط إكسير البقاء، ورحيق المقاومة، وهرمون الركض والوقوف والاستمرار.. إنني ما زلت واقفًا دون عكازات، وهذا يغرقني بالغرور ويملأني بالكبرياء، والرضا بما يصيبك نعمة كبيرة يا صديقي، والامتنان بما يقدره الله لك فضيلة عظيمة، وأعلم أنَّ ما أصابك لم يكن ليخطئك، وهذه الحياة رحلة مجهولة، لا نعرف ماذا ينتظرنا غدًا! نجهل ما سيحصل لنا في الأيام القادمة والساعات النائمة، ولا يمكن أن نرى ماذا يخبئ لنا القدر خلف ذاك الشارع، ولا نعرف أي نوع من الذئاب تتربص لنا وراء ذلك الزقاق.

كم تمنينا واقعًا أفضل وحاضرًا أجمل ومستقبلًا أرحم وألطف، لكن ضاعت الأحلام، فخالطها الوهن وغسلتها الأوهام!

صديقي العزيز.. لا يمكن أن نعرف ماذا ينتظرنا خلف تلك الصخرة، ووراء تلك الشجرة، لكننا لابُد أن نمضي، لابُد أن نواصل طريقنا؛ فالتوقف يعني الانتهاء والجمود والتلاشي.

يجب أن نمسح دموعنا ونواصل.. يجب أن نلصق اللصقات على جراحنا ونمضي.. لا يمكن أن نستسلم.. من المشين أن نتوقف.. من المعيب أن ننهزم ونندثر ونتكسر ونتفتت.

يجب أن نقدم الامتنان لكل مصيبة كتبها الله علينا، ويجب أن نتلو آيات اليقين والرضا في كل بلاء ابتلانا الله به. وتأكد يا صديقي أن المحنة دفقة من دفقات الحياة، وستتبعها حقنة من حقن النشاط والهمة والصعود والفرح.

املأ روحك بالرضا لكل ما قدره الله في طريقك، وستشعر أنك منتصر، غير مهزوم، ولا يمكن أن تُهزم في قادم الأيام.

إنَّ الإنسان مخلوقٌ جبار، زوده الله بكل مضادات الصدمات، وموانع الانكسارات، ليواصل حياته كما كتبها الله له.

انظر إلى شعوب العالم من حولك، انظر إلى مصائبهم، وتأمل فجائعهم، وركز على معاناتهم ومصائبهم، وراقب عزيمتهم وصبرهم ونهوضهم وانتصاراتهم.

الانتصار على الانكسار يمنحنا دافعًا قويًا وعجيبًا للاستمرار بروح مشتعلة بالأمل، معبأة بالرجاء والأماني.

ليست هناك انتصارات دائمة يا صديقي، كما إنه لا هزائم متواصلة!

عبئ روحك دائمًا بالأمل وبالشفاء مهما كانت قوة المرض ووطأته وقسوته، فيستحيل أن تُشفى من أي مرض إذا كانت روحك نخرة.. منهزمة.. مطحونة.

يجب أن نصنع من كل هذا الكم الهائل من أحجار السقوط ورمال الخسارات سُلمًا نتسلق من خلاله إلى تلك النافذة الصغيرة المسماة "الأمل".

يجب أن نستنشق القوة ونتنفس النهوض.

ابحث عن القوة في داخلك، وستجد لديك رصيدًا لا ينفد من قوة التحمل، وطاقة الصبر، ورغبة الانتصار وشهية التسلق والارتفاع. ويجب أن نمنع قدر الإمكان الانهيار من التدفق إلى أقدامنا والسيلان في شراييننا؛ فالرصاصة التي لا تقتلني.. تحييني، وتمنحني حياة أجمل وأروع مما قبلها، ورائحة بارودها تشحنني بالانتشاء والعناد والغناء.

هناك مصباح احتياطي في داخلك، يضيء لك كلما انطفأت مصابيحك الأمامية، هذا المصباح لا يمكن أن يضيء دون أن تكون قادرًا على تشغيله وإشعاله، وليس من السهولة إشعاله وتفعيله. فأنت ربان سفينتك.. أنت وحدك من يمسك دفتها. أنت وحدك من يستطيع توجيهها، وإنقاذها من عواصف النفس، وأمواج الانكسارات العاتية. فأحسن القيادة وقوي قلبك ولا تطفئ المواقد ولا تقتل المواعيد ولا تمحو رائحة الأزهار، ولا تصنع توابيت الأحلام.

فقط كن متأهبًا لكل عاصفة قد تضربك في أية لحظة.. كن "كالأسفنجة تمتص الحانات ولا تسكر".

وقل دائمًا.. الحمد لله وشكرًا شكرًا أيتها "الخسارة"!