هل ما زالت الأزمة المالية قائمة؟

 

د. عبدالله باحجاج

انكشفت بعض الأسباب التي صنعت أزمتنا المالية، وليس كلها، ورغم ذلك، فهي كبيرة في حجم تأثيراتها المالية على خزينة الدولة، وعلى قضية المديونية الكبيرة، وهذا الانكشاف يُدلل على خطأ الكثير من المفاهيم التي روجت وسوقت لتمرير السياسات المالية المُؤلمة على المواطنين، من أبرزها تحميل المرتبات ما لا تتحمل تهمة أنها الثقل الكبير على موازنة الدولة، وتم التغاضي عن الأسباب الكبيرة والأساسية التي تستنزف الموازنة، وتساهم في تعميق أزمة المديونية، وهذا الانكشاف إضافة إلى ارتفاع أسعار النفط منذ فترة زمنية، حتى وصلت الآن إلى ما فوق المئة الدولار للبرميل، يجعلني أعنون مقالي بذلك التساؤل.

لكن.. ماذا بعد هذا الانكشاف الذي يُبري المواطنين من التهمة المنسوبة إليهم؟ دعوني أطرح دلالات وإبعاد هذا التساؤل في سياق الانكشافات الرسمية التي سنتفاعل معها من منطق الفعل وردة الفعل، ومن ثم فتح الآفاق العقلانية لاستدراك مرحلة القسوة المالية الدراماتيكية المتصاعدة على المواطنين حتى الآن، مستخدماً في ذلك أسلوب المقارنات.

فمن أين سأبدأ؟ هنا تتزاحم البدايات، وكثيرًا ما أعدّل فيها لمنزلتها القيادية في صناعة الأزمة، وسأحصرها في النقاط التالية:

- انكشاف مزايا موظفي الشركات الحكومية، وبالذات رؤوسها التنفيذيين وأعضاء مجالس الإدارات، وقرار جهاز الاستثمار العماني تقليصها من 80 ميزة وبدلا لتصل إلى 12 فقط، وحتى هذا الأخير يبدو نظريًا كثيرا، وهذا يعني أنه طوال أكثر من 52 عامًا، وهي تستنزف أموال الدولة.

- قرار جهاز الاستثمار العماني بأنه لن يكون هناك وزير أو وكيل في إدارة الشركات المملوكة للدولة، وهذا القرار يفضح الماضي، ويكشف أن تلكم الميزات والبدلات هي صناعة أصحاب القرار السابقين من أجل الانتفاع منها شخصيًا.

- إعلان جهاز الاستثمار أنه إذا كانت هناك شركات حكومية لا داعي لوجودها أو أنشطتها أو تسبب عبئًا ماليًا على الدولة سيتم إغلاقها، وهذا يكشف خسائر هذه الشركات المتواصلة، وقضايا مشترياتها التي تنكشف الآن للرأي العام بصورة مثيرة للاستياء، ويكشف عن المبالغة في إقامة شركات من أجل النفع الخاص، وكلها كانت تستنزف سيولة الدولة.

- جهاز الرقابة المالية والإدارية يكشف مؤخرًا عن اختلاسات حديثة بالملايين، فماذا عن حقبة الخمسة عقود الماضية؟

- الأموال الناجمة عن ترشيد الإنفاق وإعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة، والتقاعد والضرائب والرسوم ورفع الدعم.. إلخ.

ينبغي هنا أن نشيد بهذه الانكشافات من حيث المبدأ، وهي رسائل طمأنة للمجتمع بنظافة المسيرة المالية في العهد المتجدد، وأن أموال الدولة مصونة، لكن ينبغي أن نتوقف هنا عند مسألتين مهمتين هما:

1- حقبة الماضي.. لماذا لا تُفتح ملفاتها لاسترجاع أموال الدولة؟

2- مرحلة الحاضر.. حيث إنَّ تنظيف المسار المالي من الهدر والفقد والاختلاسات والرشاوي، يدر على خزينة الدولة أموالًا طائلة؛ لذلك ينبغي أن يترتب عليه الآن تعديل سياسة الجبايات القاسية على وجه السرعة، ولا يستقيم ذلك مع مواصلة استنزاف جيوب المواطنين.

كنتُ قبل سنتين وفي مقالات عديدة، قد أوضحت أن الأزمة المالية بسبب انخفاض أسعار النفط وكورونا، لا تبرر القسوة المالية على المواطنين، واعتبرت الانخفاض وكورونا مرحلة تستوجب الانطلاق منها لإعادة ترتيب البيت المالي ونظافته وفق مفهوم جديد للدولة يتناسب مع البعد الاجتماعي للدولة، ولن نجده الآن في الليبرالية المطلقة أبدًا، وإنما في دور اجتماعي يحافظ على علاقة السلطة السياسية بالمجتمع، ويحصن المجتمع من أية اختراقات داخلية وخارجية، وهي قد أصبحت متعددة، وقد وصلت للخليج بالأموال القذرة والنفوذ العالمي المشبوه، والأبواب مشرعة لها في بعض العواصم الخليجية، ومنها يمكن أن تدخل بسهولة لبقية العواصم، وهنا نرفع الصوت عاليًا بخطورتها في ضوء استمرار سياسات القسوة على المجتمع.

وفي ضوء كذلك الرهانات على الجبايات، وهي أسهل الطرق المالية، لكنها تدميرية للبنى الاجتماعية، ومن الحكمة السياسية الآن تعديل مسيرة الجبايات في ضوء السيولة المالية التي تجنيها البلاد الآن من إعادة ترتيب وتنظيف المسارات المالية، كما أشرت إلى بعضها وليس كلها، وهذه أموال تضخ لخزينة الدولة، ولم تكن قبل خطة التوزان المؤلمة اجتماعيًا متوفرة، فهل نتجاهلها، ويتم الإصرار على قسوة الجبايات؟ وكيف إذا ما أضفنا إليها أسعار النفط المرتفعة التي تذكرنا بعصرها الذهبي؟ ومن دون شك تشهد خزينة الدولة الآن سيولة مالية كبيرة، تستوجب عاجلا تعديل خطة التوازن المالي لديمومة الاستقرار، والحفاظ على العلاقة السياسية مع المجتمع، وهنا صوت العقل السياسي الملح الآن.

كل معطيات المرحلة الوطنية الآن تستوجب تعديل خطة التوازن المالي، وتجاهلها سيعبر عن عدم تقدير حجم التحديات الاجتماعية المنظورة، ومدى تقاطعها مع مرحلة الانفتاح نحو الخارج، وتزامن دخول فاعلين أجانب جدد في الخليج، واستمرار التجاهل سيعني أن الخطة مقدسة، ولا علاقة لها بالأزمة المالية، وأنها- أي الأزمة- لم تكن سوى مسوغًا لتمريرها.

وبتعدد المصادر المنتجة للسيولة المالية في بلادنا الآن، يعني انتهاء الأزمة المالية، وحتى لو ظلت تداعياتها، فلا وجه للمقارنة لا ماليًا وسياسيًا، مع طبيعة المرحلة التي اضطرت البلاد من خلالها إلى تبني الخطة المالية القاسية، وبانتهاء أسبابها كلها أو حتى بعضها، ينبغي أن يترتب عليها مساران، أحدهما اجتماعي والآخر اقتصادي؛ الأول يوجب التخفيف من الضغوطات الاجتماعية، والثاني يتمثل في الانتقال فورًا إلى تطبيق رؤية "عمان 2040"، لذلك ينبغي ألا نترك للإدارة المالية وحدها أن تقرر الخطوة التالية، الخطوة سياسية بامتياز.