حاتم الطائي
◄ ملامح النظام العالمي الجديد بدأت في التشكُّل قبل عقدين
◄ بوتين يُدرك أن الغرب لن يخوض "حربًا عالمية" من أجل كييف
◄ الاحتكام لصوت العقل والدبلوماسية هو الحل الأمثل للوضع المتأزم حاليًا
التطورات العسكرية المُتلاحقة والمُقلقة للغاية في شرق أوروبا، تُؤكد أنَّ نظامًا عالميًا جديدًا يُولد الآن، فمن رحم الحرب الدائرة في أوكرانيا مع بدء الجيش الروسي قبل أيام "عملية عسكرية"، سيُولد نظام عالمي جديد يقضي على نظام "القطب الواحد" الذي ظل جاثمًا على صدر العالم بعد الحرب العالمية الثانية وانهيار الاتحاد السوفييتي.
ملامح النظام العالمي بدأت بالفعل في التشكُّل قبل نحو عقدين، خاصة بعد صعود نجم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وتناوبه على السلطة خلال العشرين عامًا الماضية، مع السياسي البارز ديميتري ميدفيديف، ولاحقًا مع تعديل الدستور الروسي ليضمن بوتين لنفسه البقاء أطول فترة مُمكنة على رأس السلطة، بنظام رئاسي كامل السلطات والصلاحيات. أضف إلى ذلك الصعود الاقتصادي الهائل للصين، كقوة اقتصادية وعسكرية ذات وزن وثقل لا يُنكره أحد، وهو ما دفع الولايات المُتحدة لفرض إجراءات تستهدف كبح جماح النمو الاقتصادي في الصين.
إذن ثمَّة قوتان صاعدتان- هما بالفعل قوتان عُظميان- بدأتا تفرضان نفوذهما ورأيهما على الساحة العالمية، لكن الجديد الآن أن القوة الروسية برهنت على قدرتها على فرض إرادتها حسبما ترغب. ففي السابق، كانت تُمارس روسيا نفوذها عبر حق النقض "الفيتو" أو من خلال عمليات بيع السلاح الروسي هنا وهناك، حتى إنها باعت منظومة "إس-400" للدفاع الجوي إلى تركيا، العضو في حلف شمال الأطلسي "الناتو"، وهذا يعني أنها استطاعت إحداث اختراق في هذا الحلف، وهو ما تأكد في الرفض الأمريكي لهذه الصفقة. كما مارست روسيا دورًا مُؤثرًا وحاسمًا للغاية في الأزمة السورية، سواء من خلال التدخل العسكري المُباشر وقلب الدفة لصالح الرئيس السوري بشار الأسد، أو عبر رفض الموقف الغربي تجاه سوريا في مجلس الأمن مستخدمةً حق "الفيتو" كما أشرنا سابقًا.
ولم يتوانَ الرئيس بوتين لحظة عن إثبات رغبته في إرساء دعائم نظام عالمي جديد، تكون فيه روسيا ذات غلبة لا يُمكن مُقاومتها، فمع احتدام الوضع في شرق أوروبا، زادت تحذيرات روسيا من منح أوكرانيا عضوية حلف "الناتو"، وبدأت موسكو في التَّحرك، من خلال وضع 100 ألف جندي على الحدود مع أوكرانيا، وإجراء تدريبات عسكرية في بيلاروسيا (روسيا البيضاء) الواقعة شمال أوكرانيا، وبلغت ذورة هذا الحشد في العدة والعتاد مع إشراف بوتين بنفسه على مناورات نووية استخدم فيها الجيش الروسي صواريخ باليستية، ما يعني أنَّ الأخير كان مستعدًا لأعنف المعارك الحربية. ونجح بوتين في "جس نبض" أوروبا والولايات المُتحدة، بقراره الاعتراف باستقلال دونيتسك ولوجانسك، ومن ثمَّ إرسال تعزيزات عسكرية إلى دونباس؛ حيث لم يتحرك "الناتو" ولا الولايات المتحدة عسكريًا، ليُدرك بوتين أنَّ الغرب لن يخوض حربًا معه، وأنَّ الناتو لن يتسبب في اندلاع حرب عالمية من أجل الدفاع عن أوكرانيا. وعندئذ، فاجأ بوتين العالم أجمع بإشعال فتيل الحرب وبدء عمليات عسكرية في أوكرانيا، قال إنِّه يهدف من خلالها إلى "نزع سلاح أوكرانيا والقضاء على البنية الأساسية للجيش الأوكراني".
نحن هنا أمام رجل قوي يفرض إرادته على العالم أجمع، دفاعًا عمَّا يراه "حماية الأمن القومي الروسي"؛ وسواء اختلفنا أم اتفقنا مع هذا الزعم، إلا أنَّ الشاهد والماثل أمامنا أن نظامًا عالميًا جديدًا بدأ بالفعل، وأن حقبة "الدولة العظمى الوحيدة" ربما قد أفلت ولعقود قادمة. وما يحدث الآن على الأرض، عسكريًا وسياسيًا، يُشير إلى أنَّ بوتين قد ربح الحرب، إلا في حالة تدخل أوروبا والغرب عسكريًا، وهذا مُستبعدٌ بدرجة كبيرة.
لكن ما الذي ينبغي القيام به الآن؟!
الحقيقة أنَّ الحرب لا تفيد أحدًا، حتى المُنتصر في الحرب هو مهزوم؛ لأنه أهدر عقوداً من التنمية وأنفق مليارات الدولارات على التسليح والعمليات العسكرية، وهذه الحرب الدائرة رحاها الآن تُنذر بمخاطر كبيرة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، ففي ظل مخاطر التضخم وتأثيراته السلبية على الاقتصاد العالمي، تتزايد احتمالات تعمق الأزمة الاقتصادية، في وقت يسعى فيه العالم إلى التَّعافي، فضلًا عن تأثر سلاسل الغذاء العالمية؛ حيث تُسهم أوكرانيا وروسيا بنحو 29 في المئة من صادرات القمح العالمية و19 في المئة من إمدادات الذرة في العالم و80 في المئة من صادرات زيت دوار الشمس. هذا إلى جانب المخاطر الاجتماعية الناتجة عن تشريد ونزوح مئات الآلاف من الأوكرانيين، أو أيِّ دولة أخرى قد تمد إليها نيران الحرب.
إنَّ الاحتكام للغة العقل والدبلوماسية هو الحل الأمثل للوضع الراهن الذي إذا ما بلغ مرحلة عدم السيطرة، فالنتائج ستكون كارثية، ولذا يجب على عقلاء العالم أن يبحثوا عن سبل السلام لتفادي العواقب الوخيمة المحتملة.