أبعد من أوكرانيا.. الحرب العالمية الثالثة بدأت قبل سنوات

د. رفعت سيد أحمد

أمام تصاعد التوتر  المستمر بين روسيا ومنظومة حلف شمال الاطلنطي  حول( أوكرانيا – الدولة والازمة) المشتعلة  ،يقف العالم قلقا من حرب عالمية ثالثة تكون أوكرانيا بوابتها  وربما لاتقف عندها إذ سيتحول العالم أجمع وبخاصة أوربا  ألي ساحة قتال نووي مدمر يفتح أبواب الجحيم ولا يغلقها ! 

والمؤكد لدينا هو أن تلك الازمة المشتعلة  والتي مرت بمراحل عدة أحدث حلقاتها  هو إعتراف روسيا -بوتين بجمهوريتي (بدونيتسك ولوجانسك) واللتين كانتا جزءا من دولة أوكرنيا ..والذي سيتطور لاحقا الي التحالف والضم لهما مع روسيا ليصبح شرق أوكرانيا كاملا  في قبضة روسيا وليعني حصار ( كييف ) وإضعافها تما ما ويعني أيضا وضع روسيا لقواعد لعبة دولية جديدة  أهم بنودها أن أي محاولة لتحرير الجمهوريتين من قبل أوكرانيا وحلف الناتو  سيكون  بمثابة حرب مباشرة مع روسيا.

هذا التصعيد المستمر   لايعني –لدينا-بداية الحرب العالمية الثالثة فتلك الحرب بدأت قبل سنوات عشر مضت حين تجاوز الخلاف الروسي (ومعه الصين ) –الامريكي  حدود الحرب المسلحة بالوكالة (كما في سوريا وبلاد ماسمي بالربيع العربي ) الي حروب إقتصادية متنقلة ومدمرة  للدول الكبري بلا إستثناء ..ومن ثم ستكون المعركة الروسية الاوكروانية مجرد حلقة من حلقات الحرب العالمية الثالثة التي بدأت علي النفوذ والاقتصاد والسلاح قبل سنوات مضت .وفي تقديرنا أن المعركة مع أوكرنيا  ستكون مهمة للامن القومي الروسي لان القبول بتواجد أسطول وجيوش حلف الناتو علي الحدود المباشرة لروسيا –كما تريد واشنطن من ضم أوكرانيا للناتو- يمثل خطا أحمر دموي تضعه روسيا بحزم وعصبية لا تقبل التراجع . إن هذة الازمة بكل أبعادها تحتاج الي القاء أضواء علي بعض الجوانب المعتمة للصورة.

حقائق حول دولة الصراع: أوكرانيا..

أولا: ماهي حقيقة دولة أوكرانيا؟ نحتاج الي قدر من المعلومات حول تلك الدولة التي أثارت كل هذة الضجة  والتي يدور حولها الصراع وتشتدد الخلافات وهي أضواء مهمة لمن يريد قراءة تطورات المشهد  ومستقبله الدامس.

بداية أوكرانيا ليست دولة صغيرة، يحكمها رئيس يهودي الديانة أسمه فلوديمير زيلينسكي (كان يعمل ممثلا كوميدي في السينما) الواقع أن أوكرانيا هي ثانيةُ أكبر دول أوروبا بالمساحة بعد روسيا حيث تبلغ مساحتُها نحو 700 ألف كلم مربّع. ويفوق عدد سكانها أكثر من 44 مليونا.  أي انها أكبر من فرنسا بنحو 50 ألف كلم2، ومن المانيا بنحو 250 ألف كلم2 ،وهي اكبر بمرتين من مساحة إيطاليا. وصفت اوكرانيا تاريخيا بأنها ”مخازن  قمحِ أوروبا”؛ ذلك لأن فيها   32،5 مليون هكتار من الأراضي الزراعية وبينها ما تُعرف بالأراضي السوداء المشهورة بخصوبتها الاستثنائية. 

وفي مطلع القرن العشرين، وفقا لدراسة مهمة للصديق الإعلامي اللبناني المعروف سامي كليب عن (الأزمة الأوكرانية) كانت أوكرانيا تؤمن نصف انتاج القمح للإمبراطورية الروسية الشاسعة، وكان 90% من صادرتها يساهم بنحو كبير في ميزانية الدولة الروسية، وهو ما جعل روسيا تتربع على عرش الدول المصدرة للقمح في العالم الى جانب الولايات المتحدة الأميركية.

هذا ما يُفسر الوان العلم الأوكراني، ذلك ان الأصفر يشير الى القمح والازرق الى السماء.

وإليكم هذه الأرقام المُهمّة:  

منتجات القمح والصناعات الغذائية في أوكرانيا كانت في العام 2019 تمثل 15% من الناتج القومي الخام  بسبب ملايين الهكتارات من  أراضيها القابلة للزراعة، أي نحو 70% من المساحة الاجمالية، وهو ما يُوازي ثلث مساحة الأراضي الصالحة للزراعة في كل الاتحاد الأوروبي.

ومنذ العام 2010 احتلت أوكرانيا قائمة أكبر الدول المصدرة للحبوب،فكانت في العام 2018 في المرتبة الثامنة عالميا في انتاج القمح، والخامسة في تصديره منافسة بذلك روسيا المصدّر العالمي الأول،والخامسة في انتاج الذرة والرابعة في تصديرِها عالميا. 

في العام 2005 كانت روسيا تصدّر الى أوكرانيا 74 بالمئة من حاجاتها من الغاز الطبيعي و85 بالمئة من البترول. كانت أوكرانيا أيضا كبيرة الأهمية لروسيا حيث يمر عبر أراضيها 80 بالمئة من الغاز الروسي الى أوروبا  عام 2014 تدهورت العلاقة بين روسيا وأوكرانيا فقلّصت كييف استيراد الغاز من روسيا، وصارت منذ العام 2015 تستورد كلّ غازها من أوروبا الوسطى وتحديدا من سلوفاكيا وبولونيا، وراحت تلجأ أيضا الى استيراد طاقة نووية من شركات اميركيا لتغذية مفاعلاتها النووية الأربع.

ثانيا: منذ العام 2016 وبعد توقيعها اتفاق التبادل الحر مع الاتحاد الأوروبي والذي قابلته موسكو بوقف اتفاقها المماثل مع أوكرانيا، تغيّر التبادل التجاري بين كييف وموسكو، فصارت أوروبا تصدّر منذ العام 2018 أكثر من نصف حاجات أوكرانيا من البضائع، وغدت الصين الشريك التجاري الأول لأوكرانيا. 

كان مرور الغاز الروسي عبر أوكرانيا الى أوروبا يشكل مصدر دخل مهم لكييف، لكن منذ تدهور العلاقات، لجأت روسيا الى نقل الغاز عبر بحر البلطيق ومن هنا بدأت  فأننا نري أن الحرب العالمية الصالثة  بمعناها الشامل وغير العسكري التقليدي قد بدأت منذ زمن وبادوات متعددة وأبرزها الادوات الاقتصادية بين روسيا  والغرب عبر بوابات عدة وجغرافيا متسعة أحدثها  بوابة أوكرانيا منذ سنوات وليس اليوم (2022) كما قد يذهب بعض  ممن يسمون بالخبراء الاستراتيجين!  

ما أشبه الليلة بالباحة؟! أوكرانيا: كوبا الستينات!

ثالثا :هذا وتؤكد الحقائق علي الارض أن الازمة الاكورانية – الروسية ستنتهي ضمن قواعد  الحرب العالمية الجديدة  المستمرة منذ سنوات ...ستنتهي الي (تسوية ما )لصالح روسيا لانها تتصل مباشرة بعصب أمنها القومي، ولكن الغرب وخاصة واشنطن لن تخسر بالمطلق بل سيقايضون  روسيا (كما هي أصول لعبة  الامم الدولية خاصة في الحروب الكبري ) أيضا ببعض المصالح في مناطق نفوذها المنتشرة في العالم وللتأكيد علي هذة النتيجة التي إنتهينا اليها نذكر ابالتاريخ ونعود اليه في أزمة عالمية مشابهة وقعت بالامس ... إنها أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962 التي تقول وقائعها بإختصار أن إثنين من القادة المستقلين هما نيكيتا خروتشوف وفيديل كاسترو قررا أن وضع الصواريخ الروسية على أرض كوبية سيكون فكرة جيدة  وهنا نسأل مع  من يفهم في القانون الدولي :هل كان لديهما الحق بذلك نعم بالفعل لأنهما بلدان مستقلان.. وعلى إثر ذلك أبرما الاتفاق وبدأت روسيا في نقل قطع الصواريخ لتجميعها في كوبا وعندما سمعت الولايات المتحدة بهذا قال الرئيس كينيدي للروس –وفقا للوثائق المنشورة-"عودوا بسفنكم وإلا سنغرقها، وإذا كان هذا سيؤدي لاندلاع الحرب العالمية الثالثة فليكن" وبالفعل عادت السفن الروسية. 

لكن كانت هناك تسوية لم يعلن عنها آنذاك  والتي كشفتها الوثائق الدولية لاحقا وتضمنت موافقة  كينيدي على سحب صواريخه من تركيا في المقابل لأن الروس قالوا "انظر، أنت أيضاً تضع الصواريخ على حدودنا" إذا كنت تقول أن صواريخنا تمثل تهديداً وجودياً لك، فكذلك صواريخك أخرجها، ولن نرسل صواريخنا كانت تلك تسوية، طلب كينيدي ألا يتم الكشف عن هذا حتى لا يفقد شعبيته في أمريكا. وقد كان له  ما أراد !ولم يكشف عن ذلك وقتها. كانت تلك تسوية ساعدت على تجنب اندلاع الحرب العالمية الثالثة.  *اليوم القيادة الروسية تعتبر الناتو تهديداً وجودياً لها ،حيث  جعل  دولا  كانت حليفة لروسيا في الماضي.. دولا تتبع الناتو ..مثل (لاتفيا وإستونيا) على الحدود الروسية، والآن تريد أوكرانيا الانضمام للغرب إنها مسألة معقدة تلعب فيها  الولايات المتحدة دوا شديد الوضوح.
وهنا مصدر الخطر الاكبر علي روسيا ..إذا ما انضمت أوكرنيا الي حلف الناتو ...وهي  على الحدود مع روسيا ليس هذا فحسب، بل وإن شبه جزيرة القرم التي تتبع روسيا تاريخياً،ستتحول وفق هذا المفهوم الي خنجر في ظهر روسيا. ولطالما كانت مدينة سيفاستوبول مقر البحرية الروسية في البحر الأسود فإذا بقيت شبه جزيرة القرم تابعة لأوكرانيا وإنضمت الاخيرة الي  حلف الناتو؛فإن الأسطول الروسي لن يستطيع التواجد في سيفاستوبول، لكن الأسطول السادس الأمريكي سيكون متواجداً، وسيصبح حلف الناتو متمركزاً على الحدود الجنوبية الغربية لروسيا، ويعتبر الروس هذا بمثابة تهديد وجودي، ويقولون أنهم لن يسمحوا بذلك،  لأن هذا يمثل تهديدا وجوديا لهم  مثلما حدث تماما لواشنطن في أزمة الصواريخ الكوبية،. ومن هنا صعد بوتين وسيستمر التصعيد  وسنشهد عالما جديد  قريبا وستصبح روسيا والصين ومنظومة دولية جديدة تمتد من فنزولا وصولا الي سوريا وإنتهاء بموسكو أمام حلف الناتو  مباشرة في شكله التوسعي الجديد  ربما يستخدم في هذة المواجهات الجديدة  الاسلحة النووية،   ولكن قبلها ستكون الاسلحة الاقتصادية هي الأمضى والاكثر تأثيرا وبخاصة النفط والغاز والإرهابيين بالوكالة كما جري ولا يزال في الشرق الاوسط في زمن ما سمي بالربيع العربي ..هو عينه ما سيجري حول  ومع موسكو وواشنطن وبكين في حرب عالمية ثالثة بدأت قبل عشر سنوات ولا تزال فصولها مستمرة .. والله أعلم.