التدخل السياسي المُلِح

 

د. عبدالله باحجاج

كل مُبررات التَّدخل السياسي في مرحلتنا الوطنية الراهنة، قد أصبحت الآن كاملة وناضجة، وغير قابلة للتأجيل، وعنصر الزمن هنا الفاعل، وهو الذي سيُحدث الفارق في المآلات، ومن هنا نستهدفه الآن تناغمًا مع نضوج مبرراته، وشرعية وجوبه، وهذا دورنا كأقلام عُمانية تخصصت في الشأن العام، وعاهدت الله- عزَّ وجلَّ- أن تكون وطنية خالصة، ومُتجردة من الذاتية ومنافعها المالية والمعنوية، وحريصة كل الحرص على ما من شأنه أن يحافظ على ديمومة الاستقرار في البلاد، وهذا هي حجتنا التي تدفع بنا إلى تبني قمة الصراحة، والمُطالبة بهذا النوع من التدخل.

ونجزم أننا وصلنا الآن إلى مرحلة تاريخية تُحتِّم المطالبة بهذا النوع من التَّدخل وفي ظرفيته الزمنية المُلحّة، وذلك بعد أن وصل الاستياء الاجتماعي منحى تصاعديًا مُقلقًا، ولا يبدو في الآفاق أن هناك جهة حكومية أو رسمية تسعى إلى استيعاب هذا الاستياء، وتفكيك مفاعليه؛ بل أرى العكس، وهو الاستمرارية المثيرة في تغذية الاستياء، ولم تعد الجهات المالية الحكومية لوحدها تمارس هذه التغذية، وإنما انضمت إليها الشركات العمومية التي تتفنن في استهداف جيوب المواطنين.

ولعلَّ رفع رسوم توصيل خدمة المياه، وأخذ قرض من أجل تسريع المُخططات السكنية، وسداده من جيوب المواطنين من خلال رسوم التوصيل، نموذج على تعدد وتنوع المسير الجبائي في بلادنا، وهنا نُوجه تساؤلًا مُركبًا للحكومة باعتبارها المسؤولة عن كل أفعال وتصرفات الوحدات الوزارية والشركات العمومية، وهو: هل سيتحمل المجتمع كل هذه الضغوط المالية؟ وإلى متى؟ فمنذ سنتين وحتى الآن، والسياسات والقوانين والقرارات تستهدف هذه الجيوب، وهي بطبعها محدودة الموارد، ولا ينبغي هنا تجاهل انضمام الأصوات المُؤثرة في المجتمع لمسيرة الاستياء، ودعواتها المُتعددة الاتجاهات بالرأفة والرحمة بالمجتمع، فتجاهلها، سيترتب عليه خطوات لاحقة في مسيرة التصعيد، هذا من بديهيات المنطق والتطورات وتفاعلاتها، وهذا من دروس الماضي والحاضر في تجاربنا المُعاصرة.

وتقاطع الأصوات المُؤثرة الآن مع قضايا المجتمع، نتيجة طبيعية، ويمكن البناء عليها لفهم التطورات اللاحقة إذا ما واصلت الحكومة تجاهلها للاستياء وتطوراته، فعلى ماذا تُراهن الحكومة حتى الآن؟ لا يُمكن أن تنجح في الاستمرارية حتى تنتهي سنوات خطة التوازن المالي (2021/ 2024) المؤلمة اجتماعيًا، وقد أصبح المشهد الوطني الآن يتجاذبه تزايد الضغوط المالية القهرية على المجتمع، وتعددها وتنوعها، يقابله تصعيد الاستياء الاجتماعي مع كل حالة قهرية، وحتى لو افترضنا أنه ينبغي أن يتحمل المجتمع هذه السنوات القاسية، فماذا بعدها؟ القناعة الاجتماعية تذهب إلى أن النظام الجبائي/ الضرائبي، والسياسات المالية التي تستهدف الجيوب، ليست وقتية وإنما تؤسس للمرحلة المالية الدائمة.

ربما على صُناع القرار أن يفكروا بعمق في تدخل النخب وكبار الفاعلين المعنونين في البلاد تضامناً مع المجتمع في مرحلته الراهنة، وقيادتهم للمشاعر والعواطف الاجتماعية.. فهذا مسار يُغير البوصلة الاجتماعية، وسيتعزز ويترسخ، ومن ثم سيتشكل بألوان متعددة في مرحلة وطنية منفتحة من بوابة الاستثمارات. من هنا أيضًا، نطالب بالتدخل السياسي بعد ما اتضح لنا عدم وجود أية جهات حكومية أو سيادية قادرة أن تكبح جموح نظام الجبايات، وتستشرف آفاقها المنظورة وليس البعيدة المدى فحسب؟ هنا تكمن الإشكالية الكبرى، فالمسيرة الجبائية قد فقدت زمام جماحها السياسي، وتَركت للفكر المالي الصلاحية المطلقة في إعادة ترتيب البيت المالي من منطلق جبائي خالص.

كل جهة تُريد حل مشاكلها المالية وتنفذ مُخططاتها.. من جيوب المواطنين، وهذه الجيوب قد نضبت مواردها بسبب الضرائب والرسوم ورفعها المستمر، وقلصت من قدرة تحملها للضغوطات المعيشية، ومعها، أصبح بعض المجتمع مُحبطًا، لا يصدق واقعه ومآلاته، فكيف يصدقه، ووصل الأمر إلى أن تلجأ شركة عمومية إلى إبرام قرض وتقرر سداده من جيوب المواطنين. والتفكير الإبداعي هنا يتجه نحو المسار الخاطئ، فعوضًا من أن يتجه نحو القطاع الإنتاجي الآمن، يتجه نحو تعميق عجز المجتمع المالي، وشل اندماجه الطبيعي في مسيرته الوطنية الجديدة.

وينبغي القول صراحة.. إنَّ معيشة المواطن لم تعد تحكمها أية خطوط حمراء، كلها قد أُسقطت، ومباحة الآن، وستستمر ما لم يتدخل البعد السياسي عاجلًا، وينبغي أن ينصب على وقف تبني "النيوليبرالية" كنهج يغل يد الدولة الاجتماعية، لصالح الشركات الكبرى، والاقتصار على دعم الفئة الاجتماعية الأكثر تضررًا رغم أنَّ الضرر عامٌ، وأن المجتمع في أغلبه قد يدخل في هذه الفئة، وهذه من مقتضيات النيوليبرالية، ويقينًا أنها لن تصلح لبلد كسلطنة عُمان، ويقيناً أنها تُهدد بقلب أوضاعنا الاجتماعية رأسًا على عقب، ومؤشراته القوية الآن واضحة.

ومن يختلف معي، فعليه أن يُقدم تفسيرًا لكل ما يحدث في بلادنا من سنتين وحتى الآن، وكيف أصبحت المسيرة الجبائية تثير الاستياء الاجتماعي والنخب رفيعة المستوى.. ومن يختلف معي، فعليه أن يقنعنا بأنَّ الإدارة المالية للبلاد في سياساتها الراهنة، ستحافظ على منجز الاستقرار الاجتماعي، وأن الطموحات الوطنية الواعدة التي كُنا معها، سيتم تحقيقها على أرضية اجتماعية صلبة، وعليه أن يُقنعنا كذلك، أن المآلات الاجتماعية في صورها الراهنة والمستقبلية، لن تستغل من طرفٍ كان.

نؤمن أننا ينبغي أن نبحث عن مفهوم مُعاصر للدور الاجتماعي للدولة، طبعًا لن نجده في نموذج الخمسين سنة الماضية؛ لأنه قد صنع مجتمعًا إتكاليًا، وطبعًا لن نجده في "النيوليبيرالية"؛ لأنه يفرِّغ المكون الديموغرافي من بعده الوطني، وإنما علينا البحث عن دور جديد للدولة يحقق للبلاد التوازن بين الحفاظ على قوتها الناعمة من جهة، ويطلق طموحات البلاد للمستقبل المالي والاقتصادي الآمن من جهة ثانية، ومن أجلهما يتعين تعديل سياسات وخُطط المرحلة الانتقالية، مع إعمال الفكر على حتمية المشاركة المالية للمنتفعين الكبار من حقبة الخمسين عامًا الماضية.. أما الاعتماد على الجبايات فقط، فهذا طريق محفوف بالمخاطر التي نجحت بلادنا في تجنبها خلال الفترات السابقة.