"ساعات بلا عقارب"

 

خالد بن سعد الشنفري

هذا عنوان كتاب للكاتب والأديب والفيلسوف والرحالة والمترجم المصري أنيس منصور، وقع في يدي هذا الكتاب في نهاية السبعينيات من القرن الماضي، وواضح من العنوان أن المؤلف قد راهن على أنَّ ساعات قراءتك للكتاب ستكون بلا عقارب، وهذا ما حصل معي بالفعل وأنا اقرأه، فهو يشدك بدءًا من قراءتك للمقدمة وحتى النهاية.

وأذكرُ من المقدمة ما يلي:

- إن الساعات تصبح بلا عقارب حين يفقد الإنسان الإحساس بالزمان والمكان والأحداث والأشخاص ويتواصل حبله بمتعة القراءة دون انقطاع.

- كل كتاب هو سفينة مشحونة بالبضائع في محيط الفكر وبوصلة ترشدنا في غياهب العقل الإنساني.

- إن ساعة أقرأ فيها لهي ساعة بلا عقارب.. وساعة بلا زمن.

- أقرأُ في معظم المجالات الإنسانية وأجد الراحة في التنقل بين الأدب والعلم والرحلات والجغرافيا والتاريخ والفلك.. إنها رياضة نفسية وعقلية.. وهي راحة بلا شك.. فإذا تعبت من الأدب استرحت في الفلك.. وإذا مللت الفلك انطلقت مع الحشرات.

- إن كل ساعة لا أقرأ فيها.. هي ساعة كلها عقارب تلسع، وإن ساعة أقرأ فيها؛ لهي ساعة بلا عقارب.. هي ساعة بلا زمن.

أتذكر أنني كنت أعيش شيئًا شبيهاً بهذا الشعور دون أن أعي ذلك، شعور أن ساعاتي تصبح بلا عقارب أثناء قراءتي لبعض الكتب في بداية السبعينيات، فترة زخم ونهم القراءة وفترة الشباب والدراسة والتحصيل العلمي، وهي فترة تكون الحياة فيها بدون التزامات كالزواح وتكوين الأسرة، إلا أنه بقراءتي لكتاب "ساعات بلا عقارب" اكتشفتُ معنى هذا الشعور أو بالأحرى تفسير ما كان يحصل معي أثناء القراءة. كيف لا ومؤلف هذا الكتاب يعدُ من أشهر كتاب الأدب العربي الحديث في أدب الرحلات ومؤلف كتاب "200 يوم حول العالم" الشهير والذي قرأه معظم المثقفين والكُتّاب العرب، وفاوضته وزارة التربية والتعليم المصرية لتدرجه ضمن المُقررات الدراسية بمقابل مالي كبير، فرفض قائلاً: "أُفضل أن يختارني القراء على أن أكون مفروضًا عليهم، وأن أكون متعة وراحة على أن أكون واجبًا مفروضًا".

كتاب "ساعات بلا عقارب" يأخذك في رحلة إلى السماء تنظر منها إلى الأرض، كتاب مكتمل تجد فيه ما يدهشك وتشعر بعد فراغك منه أنك قرأت عشرات الكتب، كتاب دفعتني قراءته لأقتني في تلك الفترة العديد من كتب أنيس منصور؛ لأنهل من هذا المعين.. فأنيس منصور خير من يُعبر عن معاني صعبة بلغة سهلة قريبة من كل النَّاس، وليس ذلك بغريب عن من وصفه طه حسين بأنَّه "أكبر قارئ عربي على الإطلاق" وقد حفظ القرآن الكريم وهو صغير في الكتاتيب، ويجيد أكثر من 5 لغات. ومن خلال قراءتي لأنيس منصور وجدتُ نفسي أعرّج بعد ذلك على بعض من كتب كبار كتاب ذلك الزمن من العرب مثل: طه حسين ومحمود عباس العقاد ومصطفى لطفي المنفلوطي وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ (جمعيهم من مصر)، وكذلك الأجانب أمثال: الفرنسي فيكتور هوجو، والأمريكي إرنست همينجوي، والروسي ليو تولستوي، والفرنسي إميل زولا، والروسي فيودور دوستويفسكي.

إن ما يحز في نفسي اليوم أن أرى شبابنا فى مراحل دراستهم- سواء النظامية أو الجامعية وهي أجمل مراحل العمر- لا يقرأون إلا ما ندر خارج المقررات الدراسية، وكأن التعليم ليس إلا للحصول على الوظيفة، ويحرمون أنفسهم من متعة قد لا تتسنى لهم كثيرًا، بعد أن تأخذهم الحياة في معتركها في المراحل اللاحقة بنفس القدر؛ بل سيتعذر عليهم بعد ذلك القراءة بشغف ونهم، إذا لم يتذوقوا هذه المتعة في بدايات حياتهم التي لاتضاهيها متعة في مراحل أخرى من الحياة.

إننى على يقين لو أنَّ شبابنا الباحثين عن عمل قد مارسوا هذه المتعة في بداية حياتهم الدراسية وعاشوا شعور "الساعات بلا عقارب" في القراءة؛ لاعتبروا ما يمرون به اليوم من فراغ نتيجة اضطرارهم للبقاء فترات دون عمل، لما تمر به بلادنا من ظروف نعمة لا نقمة، ولانتشلوا أنفسهم من هذا الملل، وحولوا ساعات الانتظار المقلقة إلى "ساعات بلا عقارب" سعيدة بالقراءة، وأثروا عقولهم وأسعدوا أنفسهم بدلًا من التملل والاحتقان الذي يضر ولا ينفع، ويهدم ولا يبني، وما زال ذلك متاحًا لمن لم يعشْ هذه التجربة العظيمة من قبل؛ للبدء من اليوم؛ بل من الآن، ومن ما زال في بداية هذه المرحلة ولم يبدأ ليجرب ويبدأ، وعلينا نحن كأولياء أمور ومربين أن نعينهم على ذلك لينعموا بحاضرهم ومستقبلهم.

عندما سُئل الروائي الإيطالي ألبرتو مورافيا: ما أجمل ساعات العمر؟ أجاب: ساعات لا أشعر فيها بالزمن! وقال توفيق الحكيم ذات مرة- في مقابلة تلفزيونية عندما سأله المذيع عن فائدة القراءة- إن كل كتاب تقرأه ترتفع بذلك عن الأرض بمقدار سماكة صفحات هذا الكتاب، وعلينا أن نتخيل مدى ارتفاع قامامتنا بحجم ألف كتاب قرأناه أو حتى مائة كتاب أو أقل من ذلك لأن كل كتاب تقرأه سيفتح شهيتك لاشك لكتاب آخر غيره وهكذا دواليك.

أين نحن من أمة اقرأ؟ وأمة نون والقلم وما يسطرون؟ ألسنا منها؟ أين نحن من "اطلبوا العلم ولو في الصين"، و"خير جليس في الزمان كتاب"، ألسنا عربًا؟ ألسنا أصحاب رسالة عظيمة؟ وهل تؤدى الرسالة بدون اطلاع ونور علم؟ وهل يتسنى علم دون قراءة؟!