علي بن مسعود المعشني
لا شك عندي أنَّ العنوان أعلاه سيشعل خيال القارئ قبل الغوص في تفاصيل المقال وسينتقل العديد بسرعة البرق بفكره وخياله نحو جملة من العلوم ليتنبأ مُسبقًا بفحوى المقال ومراميه، وبما أن العنوان ابتدأ بكلمة "أخطر"، فسيقفز القراء بأخيلتهم نحو علوم الذرة وتقنية أسلحة الدمار الشامل وما في حكمها من علوم هندسية حربية غيرت مجرى تاريخ الحروب والمواجهات المسلحة بين الدول وجعلت القوة بالقدرة على امتلاك السلاح النوعي وصناعته وتطويره، بعد أن كانت المقاييس بالكثرة العددية والشجاعة وفنون القتال في الميدان.
وبلا شك كذلك أن البعض سيستحضر العالم السويدي ألفريد نوبل مخترع الديناميت وندمه على اختراعه، والذي أسس لجميع أنواع المتفجرات لاحقًا وصولًا إلى القنابل النوعية التي نسمع بها اليوم كالنووية والنيتروجينية والهيدروجينية والجرثومية.. إلخ. لهذا خصص نوبل لاحقًا جائزته العالمية الشهيرة لمن يخدم السلام ويسعى له تكفيرًا عن خطيئته.
وفي الحقيقة أنَّ هناك جملة من العلوم التي يمكن تصنيفها بـ"الخطيرة"؛ كون بعضها مزدوج الاستعمال ومحسوب الأثر وبدقة في حياة الشعوب والمجتمعات، كعلوم التقنية اليوم وبكافة أفرعها والتي جعلت العالم قرية صغيرة بالفعل وأصبحت كالماء والهواء للفرد والجماعة، لهذا لجأت العديد من الدول الحيوية إلى تلافي الآثار السلبية للتقنية أو التقليل منها على أمنها القومي ونسيجها الاجتماعي وموروثها القيمي عبر تقنين استخدام التقنية وابتكار أدواث بحث بديلة تقي البلاد والعباد من شرور العولمة وتكرس الانفتاح والتواصل مع العالم في ذات الوقت.
علمنا المقصود في مقالي هذا هو "علم الآثار"، هذا العلم الذي لا يُعيره الكثير من الناس العناية الكافية لجهلهم المعيب بأهميته كونه معني بالنشأة الأولى للإنسان وصولًا إلى ما وصلت إليه البشرية اليوم، ولا أنكر أنني كنت من الجاهلين بهذا العلم الخطير لولا أنني انفتحت عليه مُؤخرًا ووقفت على مدى خطورته وأهميته.
"إن أهمية علم الآثار تكمن في اهتمامه بتحليل ودراسة جميع الأصول المادية للحضارة التي تمتد للإنسان القديم، وذلك من خلال الاستقراء والشواهد الفكرية على مر العصور، كما إنه يهتم باستخلاص القيم العميقة للآثار، وأيضًا الثقافية التي قام الإنسان بتركها وذلك من خلال ممارسته للأنشطة".
علم الآثار هو السياحة في الأرض والتدبر في الخلق واستنطاق مفردات الماضي لبناء الحاضر والمستقبل وتفسير التحولات الإنسانية وأطوار معيشة الأقوام وقياس منسوب إدراكهم ووعيهم وقدرتهم على نسج إبداع زمانهم من ممكنات واقعهم المعيش وبالنتيجة إنتاج ثقافات تهتدي بها الأجيال وتسير وتبني عليها. يقول أحد علماء الآثار المرموقين بإحدى الجامعات الأمريكية: "بفعل اهمالنا لأهمية علم الآثار بأمريكا فقدنا أكثر من عشرة آلاف سنة من الشواهد والآثار التاريخية نتيجة التوسع العمراني ومظاهر المدنية غير المدروسة والتي طمست تحتها جملة هائلة من الآثار والمفردات التاريخية للقارة الأمريكية". ويقول كذلك إن توفر عالم آثار بلا ضمير وضعيف أمام المغريات يمكن طمس تاريخ شعب ودولة عريقة ومنح صفات القدم والتاريخ لكيانات وشعوب طارئة عليهما، لهذا فعالم الآثار هو في الأساس إنسان مؤتمن على أمانة تاريخية وعلمية ويجب أن يتصف بضمير إنساني حي.
لهذا فلاغرابة في أن نسمع عن شبكات عالمية لسرقة الآثار وتهريبها وبيعها حول العالم لأن في ذلك طمس أو حجب لأسرار تاريخية لبلد ما أو حضارة ما وربما نسب بعضها لجغرافيات أخرى لصناعة تاريخ مزيف والعبث بالذاكرة الجمعية للشعوب وتزييف وعيها وتغييب حقائق تاريخية مهمة عنها. لهذا حرصت العديد من البلدان على الاهتمام بعلم الآثار عبر تشكيل فرق وطنية من علماء الآثار وطلابه مهمتها حماية الآثار واكتشافها وتوثيقها وحفظها من السرقات والتزييف؛ كون علم الآثار من العلوم الإنسانية التي ترتبط بقوة بالوجدان والمشاعر الوطنية للشعوب حيث لا يمكن لعلماء من بيئات أجنبية معرفة تفاصيل الآثار وترجمة وتوطين مفاهيمها الدقيقة في ظل غياب العنصر الوطني المتخصص.
وهنا استحضر عبقرية السلطان الراحل قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- ووعيه بخطورة هذه الحروب الخفية المستعرة حول العالم للعبث بآثار الشعوب ونهب تاريخها والعبث بوعيها، حين أمر بتشييد "متحف عمان عبر الزمان" بولاية منح؛ ليحمي هوية عمان الجامعة منذ بدء الخليقة ولغاية الغد مدعمة بالشواهد والآثار الدامغة والتي لا تقبل الانكار أو التزييف.
قبل اللقاء.. يكفي علم الآثار فخرًا وأهمية أنه برهن على عروبة فلسطين وفلسطينيتها؛ حيث عجر الكيان الصهيوني ولغاية هذا اليوم عن الاتيان بشاهد أو دليل واحد وفق قواعد علم الآثار يُبرهن أن لهم حقًا تاريخيًا في فلسطين رغم تجييشهم لجميع مقدراتهم في التزييف والتضليل وبدعم غربي سخي!!
وبالشكر تدوم النعم.