عصرنة التراث

 

ناصر بن سلطان العموري

abusultan73@gmail.com

في الوقت الذي كنت أسعى فيه لكتابة مقال بعيد كل البعد عن مضمون هذا المقال الذي هو الآن بين أيديكم، تغيرت دفة الموضوع فجأة، وما دعاني لذلك هي تلك الزيارة التي قمت بها مؤخرًا لولاية نزوى العريقة وتحديدًا لحارة العقر التراثية تلكم الحارة التي رأيت كيف تم فيها عصرنة التراث مع عبق الماضي، من خلال امتزاج الأصالة مع التاريخ التليد؛ لتنتج خليطًا عجيبًا فريدًا بأيادٍ ولمسات عمانية خالصة، ولأنَّ الحنين للماضي ومعرفة تاريخ الأجداد مطلب للعماني يصاحبه شغف الأجنبي لمعرفة تاريخ البلد الذي يزوره، فقد كان الازدحام على أشده من أجانب وأبناء البلد، زوارًا ومستطلعين، ينهمون المكان بأعينهم، مستكشفين وموثقين بكاميرات هواتفهم، جمال صور تغني عن محاسن الكلمات.

السياحة في القرى التراثية رائجة على مستوى العالم، ورأينا كيف تم تحويل القلاع والحصون الأثرية في أوروبا لفنادق فخمة، وكيف تم استغلال القرى القديمة لتكون معالم سياحية بارزة، وهذا ما صار في حارة العقر بولاية نزوى، حينما تم تحويل بيوت الأجداد العتيقة إلى أماكن سياحية خلابة من نُزُل وكافيهات (مقاهٍ) وفنادق وحارات مضيئة، تفوح منها رائحة بيوت الطين العتيقة وما بها من تاريخ حافل مجيد سطره الأجداد مع فكرة مبتكرة، حين تقلك لهذه الأمكنة سيارات كلاسيكية أشبه بسيارات رياضة الجولف، ويمكن للزائر خلالها برفقة عائلته أن يجوب المنطقة سيرًا على الأقدام أو من خلال تلكم السيارات التي تأخذه في جولة، وكأنه ينتقل خلالها بين العوالم من عالم الحاضر إلى حقبة الماضي التليد.

ونتيجةً لما تملكه عُمان من كنوز تتجلى في معالم تاريخية بارزة، فمن الجميل أن تُعمم تجربة محافظة الداخلية والاستفادة منها من خلال تجارب استغلال الحارات القديمة سياحيًا؛ مثل حارة العقر بولاية نزوى، وحارة السيباني ببركة الموز، ومسفاة العبريين في ولاية الحمراء، وحلة العين في ولاية إزكي، ليمتد هذا المشروع الناجح وليشمل باقي الولايات في كافة المُحافظات، خصوصا تلك التي تتميز بالقرى التراثية القديمة المتكاملة، مع التسهيل والدعم للشباب العُماني، وتذليل كافة العقبات والصعاب التي تواجه إقامة مثل هذه المشاريع الشبابية المبتكرة، لا سيما في القطاع السياحي، وعدم تقييدها بالإجراءات البيروقراطية المعقدة؛ بل ويتعدى ذلك من خلال الترويج لتلكم المواقع عبر المعارض السياحية التى تقام سنويا على مستوى العالم وهذا بما ينعكس إيجابًا على سمعة السلطنة.

القطاع الخاص مدعوٌ للمشاركة وبفعالية لدعم وإبراز مثل هذه المشاريع، وقد رأينا حملة "مو صاير في نزوى" والتي دعّمها أحد البنوك المحلية على مواقع التواصل الاجتماعي؛ لتكون عملية تكامل بين القطاع الخاص والمشاريع السياحية، يمكن تعميمها على باقي المزارات والمواقع السياحية التي تتميز بها عُمان؛ فهي ذات تاريخ عريق ويجب أن لا تكون هذه العراقة متجسدة عبر طيات الكتب و صفحات المجلات فقط بل من خلال مشاريع سياحية مبتكرة على أرض الواقع.

لمن لا يعلم، نقول إن من قام بتلك الجهود الجبارة في العقر ومسفاة العبريين والعين وحارة السيباني لم تكن بيوت خبرة أوروبية أو أمريكية؛ بل هي أفكار وجهود لشباب عُماني مخلص لم يُدفع لهم آلاف الريالات كي يقدموا هكذا فكرة عبقرية مبدعة؛ بل هم من بذلوا الغالي والنفيس ليتمسكوا بعبق الآباء والأجداد.. فوجهوا رسالة موجزة لعلها تصل للمعنيين وأصحاب القرار، مفادها أن ثقوا بالشباب العُماني، ومن جانبي أراهن الجميع أنهم لن يخسروا، ولكم في شباب نزوى أنموذجًا يدرّس ويُحتذى به.

إنَّ العقول التي أبدعت في تصميم الحارات التراثية لتكون "ماركة" عُمانية خالصة تجد الكثير منها في كل رقعة وشبر على تراب هذا الوطن الغالي، لا يحتاجون سوى لإطلاق العنان لإبداعاتهم، ومن ثم انتظروا ثمارًا يانعة مزدهرة يعود خيرها على عمان وشعبها.