حتى لا ننسى جيل الرائدات (11)

السيدة ميزون والدة السلطان قابوس

 

د. مجدي العفيفي

(1)

أضع بين أياديكم هذه الوثيقة التي تحمل دلالة ثرية في الجوهر، وتفيض برمزية في المعنى، وتتجلي أهميتها في أنها صادرة عن شخصية سامية، فهي زوجة سلطان، وأم سلطان.. هذه واحدة.

والثانية، أنَّ توقيتها الزمني مثير للتعجب والإعجاب معا.

والثالثة، أنها تشكل نموذجًا يتكرر بصورة أو بأخرى، الأمر الذي يشي بالتواصل والتناغم والتفاعل والتكامل في المشهد النسائي السياسي.

فأما صاحبة الوثيقة فهي السيدة الجليلة «ميزون» والدة السلطان قابوس، (1925- 12 أغسطس 1992) رحمهما الله رحمة واسعة. وأما الوثيقة فهي محور هذه الحلقة من هذه السلسلة "حتى لا ننسى جيل الرائدات".

كانت السيدة «ميزون» أمَّا للعُمانيين، كانت لا تتوانى عن تشجيع المرأة على خوض العمل الاجتماعي العام، ويُذكر لها موقفها الرائد والمُساند لإنشاء أول مؤسسة اجتماعية للمرأة، وهي «جمعية المرأة العُمانية بمسقط» التي ظهرت إلى النور بتاريخ سبتمبر عام 1970؛ أي بعد إشراقة فجر النهضة بشهرين فقط، وقد ظلت السيدة الجليلة حتى آخر أيامها عام 1992 تولي المرأة العمانية كل المساعدة والمساندة.

(2)

تعتز مفكرة جمعيات المرأة العمانية، بهذه الوثيقة فقد أرسلت السيدة الجليلة في 28 يوليو 1977 رسالة إلى جمعية المرأة العمانية بمسقط تكشف عن مدى اعتزازها بدور المرأة:

"أهديكم تحياتي وإعزازي بجمعيتكم الموقرة.. ويسعدني أن أشيد بجهودكم الطيبة في سبيل النهوض بالمرأة العمانية؛ فالمرأة هي الأم والزوجة والشقيقة والابنة، فإذا نهضت المرأة كان ذلك دافعًا قوياً لنهضة المجتمع بأكمله. لذلك فإنَّ موجة السعادة لتغمرني عندما أرى نشاط جمعيتكم، وأثرها الفعَّال في الارتقاء بالمرأة العمانية، حتى تعوض ما فاتها، وتتبوأ مكانتها اللائقة بين زميلاتها من نساء العالم.. وإنه ليسعدني أن أساهم معكم في الجهود التي تبذلونها لرفعة المرأة العمانية".

(3)

هكذا، تحتفظ الذاكرة النسائية، بمواقف حديثة كثيرة تؤيد المرأة وتعزز من سعيها المتواصل في خدمة المجتمع، وتبارك خطواتها لمزيد من العطاء والتطور، انطلاقا من جمعية المرأة العمانية بمسقط، التي تمثل قصة كفاح ونجاح المرأة، بما فيها من مصابرة ومثابرة، وتضحية وإيثار، وتطوع ووعي، وسعي بين الرغبة والإرادة، ولعلَّ الكثير من الشخصيات النسائية التي تحتل مواقع متقدمة في صدارة العمل العام والخاص الآن، قد خرجت من عباءة الجمعية، أو مرَّت عليها، أو عملت بها بعضا من الوقت.

ومن ثم يستوقفنا، بالذات، هذا الرمز الحديث الذي تتجلى به السيدة الجليلة، فقد كانت- يرحمها الله- أم العمانيين بكل معاني الكلمة، كانت تفتح بابها وقلبها لتصغي إلى من يتحدث إليها، كانت مثالا حيًّا أمام كل عُمانية، وكانت تشجع المرأة العمانية على العمل النسائي والاجتماعي، بل ساندت ظهور أول مؤسسة اجتماعية للمرأة، عقب فجر النهضة، وكانت السيدة الجليلة تُعزز مسيرة المرأة العمانية، وهذا فقط مثل من عشرات الأمثلة لمآثرها وأفضالها.

 (4)

ومن الجماليات الحضارية العُمانية تواصل الأجيال في العمل السياسي، ومن أجمل هذه التشكيلات اعتزاز الأدبيات السياسية المعاصرة والشواهد التاريخية القديمة، بأنَّ المرأة العمانية لها تواجدها، ضمن المنظومة النسائية، سواء أكان محليًا أم إقليمياً أم دوليا، وأنها لم تعش قط معزولة عن مثيلاتها، الأمر الذي سجل رصيدا كبيرا لحركة المرأة، تشكل منذ انطلاقتها في عصر النهضة العمانية الحديثة، بل كان ولا يزال مصدر اعتزاز لها، في خوضها لمسارات التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

 ومن أوضح الملامح السياسية تلك الإشارات المتكررة والمتنوعة في الخطاب العماني الحديث عبر سنوات النهضة وعنفوانها المستمر، التي لا تزال تؤازر طموحاتها فترتقي بها درجات متلاحقة ومتجددة في الأجواء السياسية، تحقيقاً لتنظيرات الخطاب الذي يتجلى في سياقات متنوعة ومتعددة تختص المرأة بالتقدير والتشجيع والمزيد من النهوض الاجتماعي والسياسي.

أكدت هذه الخطوات السياسية على أن دور المرأة العمانية ومشاركتها إنما يتم تحت نظرة تتسم بالموضوعية، تناغما مع مرجعيات المجتمع وأعرافه، وانسجاماً مع الرؤية التي يتبناها المشروع العماني لممارسة المرأة دورها على خريطة المجتمع سياسيا وبرلمانيا، وتعزيزا لدورها اجتماعيا وتربويا، بعد أن أثبتت التجارب أنها قادرة على تحقيق المزيد من الفعل الخلاق.

 (5)

تؤكد الحقيقة التاريخية أنَّ المرأة العمانية الحديثة تتواصل مع أسماء نسائية لعبت أدوارا سياسية تاريخية، لا تزال تحتفظ الذاكرة بأسمائهن، وقد أوردت منهن «الملكة شمساء» التي حكمت عُمان قبل 4 آلاف عام ما قبل الميلاد وقد عرفت بحسن الفطنة وحنكة السياسة، و«السيدة موزة» ابنة الإمام «أحمد بن سعيد مؤسس الدولة البوسعيدية» شخصية صلبة قامت بدور سياسي بارز في تاريخ عُمان، وعاشت حياتها في مناخ سياسي عام مليء بالنزاعات والفتن. وهناك «جوخة بنت محمد اليعربي الخؤولة» التي قادت ثورة عمانية عارمة من ولاية السويق في أبريل من عام 1830 وأعلنت التمرد في منطقة «الباطنة» احتجاجًا على أوضاع سياسية واجتماعية معينة. وهناك الفقيهة «شمساء بنت سعيد بن خلفان الخليلي» مرجعا لحل الكثير من المسائل الفقهية المعقدة، وهناك «الشعثاء بنت الامام جابر بن زيد» التي اشتهرت كزعيمة روحية، وكانت مرجعًا في الشورى والفتوى في الأمور الدينية والدنيوية، بل كانت تترأس المجالس الاجتماعية والثقافية والدينية.

وفي أجواء عصر النهضة الحديثة، ثمة عطاءات نسائية تفوح.. وتبوح .. وتفيض .. ولا تغيض.. وتعبق.. وتحقق وتوثق.