علي بن مسعود المعشني
في التاريخ لا يُوجد شيء صدفة ولا فجأة، بقدر ما هو حدث تراكمي متوقع يُدركه أولو الألباب وقراء التاريخ على قاعدة من يقرأ التاريخ يقرأ المُستقبل.
ورغم أنَّ علم السياسية من العلوم الإنسانية التي تعتمد على قواعد وفرضيات قابلة للإقرار والطعن معًا، إلا أنه علم يعتمد ويحتكم في لحظات تاريخية وتجاه مواقف بعينها على قواعد العلوم التطبيقية مثل الرياضيات والكيمياء والفيزياء وفرضياتها التي لا تقبل الطعن أو التشكيك أو القسمة. ومن هنا أتت مقولة المؤرخين والمشتغلين بالتاريخ: "التاريخ يُعيد نفسه"، وهو في الحقيقة لا يُعيد نفسه بقدر ما تتشابه الأحداث وتتكرر وفق المُعطيات، فتتكرر مواقف اليوم التي هي أشبه بالبارحة، أو نتيجة تراكمية وحتمية لها.
النُخب السياسية في وطننا العربي لا تقرأ التَّاريخ ولا تقرأ سواه من المعارف، إلا من رحِمَ ربي منهم، وبطبيعة الحال من لا يقرأ فهو محروم من نعمة التأمل والتَّدبر وسعة آفاق الفكر والتنقل في رحاب المعرفة الإنسانية وتجارب وكسب الآخرين، لهذا محكوم عليه أن يعيش في قوقعة فكره، وضيق تجربته، وأن يرى العالم وتاريخه وأحداثه من خلال نفسه ومنظوره الضيِّق فقط لا غير.
من يقرأ التاريخ ولو بجرعات قليلة أو يُجالس من يقرأون يعلم ويُدرك بالقطع أن الكيان الصهيوني ليس كيانًا سياسيًا أُريدَ له المشروعية والقبول في وطننا العربي، بقدر ما هو مشروع غربي صهيوني بامتياز لإعاقة الأمة العربية عن النهوض أو الوحدة أو حتى التضامن ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا؛ كوْنَ صراعهم مع الأمة صراع وجود لا صراع حدود. لهذا فمن العبث والبلادة تفسير الأمور في غير سياقها هذا، أو الحديث عن واقعية وسلام وتطبيع في إطار المفهوم العام لتلك المفردات والتي تُسوَّق من قواميس العلاقات الدولية والقانون الدولي، وكأننا تجاه كيان سياسي طبيعي اختلفنا معه وحاربناه بُرهة من الزمن، وأنه آن الأوان لطي صفحة الماضي والتصالح معه!
من يرى التطبيع الصهيوني مع الشقيقتين مصر والأردن ويقف على تجربتيهما بالتفصيل، يتيقن أنَّ التطبيع هو المزيد من التغوُّل والتطاول والقوة للكيان الصهيوني، مُقابل التفقير والتصغير وغياب السيادة والكرامة للآخر، وهنا يلمس كل عاقل ويتيقن أنَّ الكيان الصهيوني مشروع متحول كالفيروسات تمامًا، لا حدود له ولا تعريف مانعًا جامعًا للعلاقات معه.
التطبيع في حقيقته ليس وليد اليوم لمن يجيدون استدعاء التاريخ واستنطاقه؛ فهو وُلِدَ مع اتفاقية "سايكس- بيكو" حين قُسِّمَت الأمة إلى أقطار وكيانات قزمية لا يجمعها سوى اسم العروبة وجامعة مشتتة وممزقة، هي أقرب إلى حائط مبكى وتنابز، رغم ثوابت التاريخ والجغرافيا والقومية واللغة والدين والمصير المُشترك.
بالنتيجة لمن يجيدون الحسابات التاريخية التراكمية واستنتاجاتها، فقد أوجدت "سايكس بيكو" البُنية السياسية والعقلية وشكلت اللبنة الأولى للدولة القُطرية الوظيفية والتي يسهُل إدارتها وتقرير مصيرها عن بُعد، نتيجة إقناعها زورًا أنها كيان سياسي مُستقل بمسماه وحدوده وسيادته ومصالحه وعلمه ونشيده وعملته، وليست قُطرًا في كيانٍ عربيٍ واحدٍ. لذا اعتقدَ بعض العرب المعاصرين أن تلك الأدوات المُسماة بـ"السيادة" والمشكِّلة لها ظاهريًا، تحميهم من غدر الغرب وتحصّنهم من الزوال وتشفع لهم لرسم سياساته بمعزل عن الإجماع العربي ومفردات الأمن القومي العربي.
فوجدنا العبثية السياسية ومظاهر الانتحار في سياسة هنا وسياسة هناك، بذريعة الحق السيادي ومقتضيات السياسة والمصالح، والنتيجة أنهم أُكِلوا جميعًا يوم أُكِل الثور الأبيض؛ فالغرب ليس في قواميسه عربيٌ صالح وصديق، وعربي فاسد وعدو، فجميعهم خصوم وأعداء وفاسدون، ويجب إفناؤهم والتعامل معهم بنظرة واحدة.
فمن سلِم من العرب من بطش الغرب ومُؤامراته، فليس لأنه صالح؛ بل لأنه عميل لهم بوعي أو بلا وعي وضمن مُخططاتهم ورؤاهم، ولا يمتلك مشروعًا نهضويًا يؤرقهم أبعد من بناء مفردات تنموية ومظاهر مدنية تنعش اقتصادات الغرب وتحاكي معيشته وثقافته، ومن تعرَّض لمؤامرات الغرب ودسائسه وتضليله فهو بالضرورة ذو نزعة وطنية ويمتلك رؤية ومشروعًا يُهدد مخططات الغرب ومصالحه، سواء كان مشروعًا وطنيًا أم قوميًا.
العبرة من هذا الكلام أنَّ اتفاقيات التطبيع والسلام- ومهما كانت التسميات مع الكيان الصهيوني- ليست وليدة اليوم بقدر ما هي نتيجة تراكمات تاريخية بنيوية بدءًا من "سايكس بيكو"، أدت بالنتيجة الحتمية إلى التشظي والشتات والفرقة وغياب المشروع والهدف، ومن ثم الاستسلام والرضوخ.
قبل اللقاء.. ما لم تُخطط لحياتك، فأنت حتمًا ضمن مخططات الآخرين.
وبالشكر تدوم النعم.