"الحرب الباردة" ومأزق الغرب في أوكرانيا

د. محمد بن عوض المشيخي **

"الحرب الباردة Cold War" مصطلح ظهر على الساحة الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، ويشخِّص هذا المفهوم- الذي وجد طريقه إلى وسائل الإعلام على نطاق واسع إبان الحقبة السوفيتية التي انتهت بتفكك المعسكر الشيوعي الشرقي في مطلع تسعينيات القرن العشرين- الصراع القائم بين القوى الكبرى، إثر الدعاية الغربية التي تصور البشر في أكناف الحضارة الغربية المادية، وكأنهم يعيشون في جنة الخلد من خلال الملذات المادية والرفاهية الناعمة التي وفرها النظام الاقتصادي المزدهر الذي يقوم على نظرية الاقتصاد الحر.

لقد وفر هذا النظام فرص عمل جديدة للناس ووسائل المواصلات السريعة، وأتاح للناس شراء منازل مموَّلة من البنوك، ونظام تعليمي قوي، مما أدى إلى تحسن ظروف الحياة في مختلف المدن الغربية الرأسمالية، وأصبحت أوروبا الغربية وأمريكا قِبلة للعقول المهاجرة من مختلف دول العالم. وتقوم الحرب الباردة على الحملات الدعائية والحرب النفسية بين أطراف الصراع لكسب قلوب وعقول الجماهير في الساحة الدولية، فكانت الشيوعية تدعو إلى اعتناق الفكر الماركسي الإلحادي الذي يقوم على تذويب طبقات المجتمع وتحويلها إلى الشيوعية التي تمثل الطبقة الكادحة، بينما كانت الولايات المتحدة وأوروبا الغربية تروجان للفكر الليبرالي الغربي والنموذج الاقتصادي الرأسمالي. كانت حربًا غير مُعلنة بين الأطراف وغير فعلية، فليس ميدانها المعارك الحربية أو الحروب التقليدية الحقيقية، وإن كانت تُستخدَم فيها الوسائل السرية كالجواسيس والمخبرين والإذاعات السرية ووسائل الإعلام بمختلف أنواعها، ومزيج من الفنون والإنتاج الثقافي والفكري، والذي يمكن نطلق عليه اليوم ما يعرف بالقوة الناعمة والقوة الذكية، بل وحتى أساليب الردع المتمثلة بالترسنات النووية التي تتباهى فيها موسكو وواشنطن في ذلك الوقت. كما أن غزو الفضاء الذي بدأ في خمسينات القرن العشرين بإطلاق أول قمر صناعي سوفيتي للأغراض العلمية ثم قامت أمريكا بإرسال أول رائد فضاء إلى سطح القمر؛ مثل كل ذلك ما يعرف بتسجيل نقاط التفوق والقوة الذكية في الساحة الدولية بين المعسكرين. 

في هذه الأيام الشتوية التي تتميز بالبرد القارس في شمال الكورة الأرضية، تعود الحرب الباردة من جديد، من جانب أمريكا وحلفائها الأوروبيين بأسلوبها التقليدي القديم؛ والمتمثل في التهديد والوعيد بالعقوبات الاقتصادية ضد روسيا التي حشدت أكثر من 100 ألف جندي على الحدود الجنوبية والشرقية لجمهورية أوكرانيا؛ إذ يتوقع الغرب اجتياح هذه الدولة الأوروبية التي تبلغ مساحتها 600 ألف كيلومتر مربع وعدد سكانها 43 مليون نسمة، وذلك في أي لحظة من قبل الجحافل الروسية التي سبق لها أن احتلت أجزاءً واسعة من أوكرانيا في 2014 خاصة جزيرة القرم في الجنوب، وأجزاء من دونباس في الشرق.

لقد أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية في أكثر من مرة أنها لن تدخل الحرب لإنقاذ سيادة أوكرانيا التي تنتظر قدرها المحتوم، وتحاول بكل ما تملك الدفاع عن ترابها الوطني من الاتحاد الروسي المتغطرس والمتعطش للسيطرة على هذه الأمة الحرة، ويحاول بذلك أن يُعيد أمجاد روسيا القيصرية التي احتلت هذا البلد طوال عدة قرون قبل انهيار هذه الإمبراطورية إبان الثورة البالشفية التي أسست أول دولة شيوعية في التاريخ سنة 1917، ثم ضمت بعد ذلك أوكرانيا إليها من جديد.

لقد طلبت أوكرانيا منذ سنوات طويلة الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي "ناتو" ولكن حاولت بريطانيا وفرنسا تأجيل الموافقة على ذلك الانضمام إلى هذا الحلف العسكري الذي تقوده الولايات المتحدة التي سبق لها أن رحبت من حيث المبدأ من خلال رئيسها الأسبق في ذلك الوقت جورج بوش الابن، ولكن تلك الممالطة الأوروبية جعلت من أوكرانيا لقمة سائغة لجارتها القوية التي تفتقد لمبدأ حسن الجوار.

يبدو لي أنَّه لا توجد خيارات كثيرة أمام القيادة الأوكرانية التي اعتمدت على أصدقاء أنانيين، لا يُمكن الوثوق بوعودهم، خاصة حلف "الناتو". ونحن نكتب هذه السطور، هناك أكثر من سيناريو للاجتياح الروسي الذي قد يتوسع للوصول إلى العاصمة كييف ويعمل على إسقاط النظام الشرعي القائم ويستبدله بتنصيب بعض المعارضين الموالين لموسكو مثل البرلماني السابق (يفين موراييف). أما السيناريو الثاني وهو الأقرب للحدوث فهو توغل محدود في بعض المناطق والمدن الأوكرانية الشرقية والجنوبية، خاصة تلك التي فيها أقلية روسية من بقايا الاتحاد السوفيتي.

صحيح، أن أمريكا وبريطانيا وفرنسا تقوم بمد الجيش الأوكراني بالمعدات العسكرية الدفاعية كالدبابات والأسلحة الخفيفة وقاذفات الصواريخ وغيرها من الأسلحة الدفاعية، كما إن بريطانيا أرسلت مجموعة من الخبراء العسكريين لتدريب القوات الأوكرانية التي تعاني من اختلالٍ في موازين القوى بين الطرفين، فروسيا تملك ترسانات عسكرية متقدمة وأسلحة فتّاكة، فضلًا عن الترسانة النووية التي تضاهي قوة الولايات المتحدة الأمريكية، كما إنها تملك جيشًا قوامه 900 ألف من الجنود والضباط المدربين تدريبا عاليا. في المقابل تملك أوكرانيا 145 ألف عنصر نظامي مدرب، إضافة إلى 300 ألف من قوات الاحتياط.

لا شك أن أمريكا استطاعت بنجاح أن تقود حملة منظمة وناجحة في ما يعرف بـ"الحرب الباردة" أدت في نهاية المطاف إلى القضاء على النظام الديكتاتوري الذي يقود المعسكر الشرقي وتفكيك دول أوروبا الشرقية وتحطيم "جدار برلين" الذي قسّم عاصمة ألمانيا التاريخية برلين إلى قسمين، والذي كان رمزًا لذلك الصراع بين الشرق والغرب، آنذاك، مما ترتب على ذلك انقلاب الأوضاع على آخر رئيس للاتحاد السوفيتي ميخائيل جورباتشوف الذي حاول أن يصلح بدون جدوى، ما أفسدته الأحزاب الشيوعية في المنظومة الاشتراكية.

لكن الأمر أصبح صعبا أو مستحيلا لكي تتفوق أمريكا، مرة أخرى في هذه الحرب التي أصبحت حقيقية وليست باردة، كما كانت في الماضي؛ فالشروط الروسية التي تطالب القيادة الأمريكية أن ترد عليها كتابيًا، والمتمثلة بمنع أوكرانيا من الانضمام إلى حلف الناتو، وكذلك سحب الصواريخ البالستية من دول أوروبا الشرقية المتاخمة للحدود الروسية التي انضمت مؤخرا إلى الاتحاد الأوروبي، تعد من المنظور الأمريكي مستحيلة، وإن كانت المنقذ الوحيد للسيادة الأوكرانية واستقلالها وهنا يكمن مأزق الدول الغربية.

وفي الختام.. يجب الاعتراف بأنَّ النظام العالمي الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية وقامت على أساسه الأمم المتحدة يفتقد إلى المصداقية والعدالة ولا يحترم بأي حال من الأحوال سيادة الدول الضعيفة، ويقوم على قانون الغاب حيث يأكل القوي الضعيف، فاليوم الدب الروسي يستطيع بالفيتو إبطال أي قرار عادل لصالح أوكرانيا  في مجلس الأمن؛ على الرغم من كل المساعي الدولية التي تدعو إلى احترام سيادة الدول الأعضاء في المنظمة الدولية. والذي يسود اليوم لغة المصالح الاقتصادية، فروسيا اليوم تورِّد للدول الأوروبية في وسط وغرب القارة أكثر من 40% من احتياجاتها من الغاز في هذا الطقس البارد من السنة؛ إذ ترتب على ذلك انقسام دول الاتحاد الأوربي خاصة ألمانيا، وذلك حول الاجتياح الروسي المتوقع، فالعقوبات الغربية لا يمكن أن تمنع الاجتياح، لكون روسيا دولة كبرى، تملك كل الإمكانات التي تجعل منها غير محتاجة لأمريكا، بل معظم الدول في القارة العجوز بحاجة ماسة للطاقة الروسية كالغاز والنفط أكثر من أي وقت مضى.

** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري