علي بن مسعود المعشني
استسلمت اليابان في أغسطس عام 1945، وعُيِّن الجنرال الأمريكي دوجلاس ماك آرثر قائدًا لقوات الاحتلال المُتحالفة في اليابان، وترأس قمة القيادة فيها في الفترة ما بين عامي 1951 - 1945م، وكانت قوات الاحتلال تهدف إلى عدم جعل اليابان قوة عسكرية مجددًا وجعلها دولة ذات ثقافة غربية.
أدار ماك آرثر اليابان كحاكم عسكري مُطلق الصلاحيات أملته ظروف الحرب وهزيمة اليابان، فأدخل ماك آرثر "إصلاحات" أساسية في المجالات السياسية والاقتصادية والمؤسسات الاجتماعية، وحيد الإمبراطور ومؤسسته المُقدسة في الثقافة اليابانية الموروثة تمهيدًا توطئة لمخطط تغريب اليابان. وعبر منظومة اقتصاد السوق والنهج الرأسمالي تحولت اليابان تدريجيًا إلى نموذج غربي في فلسفة وثقافة الإنتاج والاستهلاك، وإن حافظت على بقايا ثقافات يابانية وثوابت قيمية من الموروث الحضاري لليابان.
اليابان وكوريا الجنوبية لاحقًا أنموذجان للاختراق القسري الغربي لثقافات الشعوب وإعادة إنتاج موروثها وقيمها وفق منظومة وقيم الرأسمالية الغربية المتوحشة ومقتضياتها، ولم يكن للغرب أن يمارس هذه الوحشية السياسية والاقتصادية ضد شعوب تتنافر وتتضاد معه في كل شيء مثل: اليابان وكوريا الجنوبية لولا الظروف الموضوعية التي أوجدتها الحروب الطاحنة معها والتفوق الغربي بها والهزائم النكراء التي لحقت بها والتي أخضعتها بالضرورة لجميع شروط المنتصر الأمريكي بلا هوادة أو رحمة.
الظروف الاستثنائية التاريخية التي مرَّت بها كل من اليابان وكوريا الجنوبية والتحاقهما بالركب الغربي قسرًا يمكن تسميته بالتطبيع والتطويع العنفي الإكراهي المُعلن، فبالنتيجة الحتمية أن الاقتصاد لم يكن يومًا قواعد معزولة عن السياسة وقيم المجتمع وسلوكاته وثقافته الموروثة، بل الاقتصاد هو الركن الركين لتأطير جميع تلك المفاهيم والأدوات وإعادة تشكيلها وإنتاجها مجددًا. لهذا كانت تصريحات الجنرال دوجلاس ماك آرثر ومنذ يومه الأول باليابان بأنه سيجعل منها دولة غربية، وبالتأكيد بأن هذا الجعل لن يكون عرقيًا ولا طائفيًا بقدر ماهو أخطر وهو العبث بالوعي والفكر والثقافات وإعادة تشكيلها.
فبقدر تشابه الثقافات والآداب والسلوك وتطابقها تتشابه أنماط المعيشة والتفكير والحاجات والغرائز وهنا يحدث الاستنساخ البطيء وغلبة القوي وتأثيره على الضعيف وسلبه هويته وإرادته وضمان تبعيته وانجراره بوعي وبلا وعي. لهذا لا يُراهن عاقل واحد ولا عارف بنواميس التاريخ ومفردات المدنية والحضارة على زعزعة الغرب لنموذجي اليابان وكوريا الجنوبية على الإطلاق كونهما كيانان يمثلان امتدادًا للنهج الغربي الرأسمالي أولًا، ولا يمتلك أي منهما مشروعا حضاريا صلبا- مثل الأمة العربية- يمكن أن يهدد المدنية الغربية ويكون بديلًا عنها.
نحن في الوطن العربي عانت شعوبنا من احتلالات وحملات تنصير وجحافل استشراق واستعراب ومساعي مسخ لهويتنا العربية ومشتقاتها من لغة وقيم وآداب وعادات وتقاليد وأنماط فكر وثقافة، ومازالت هذه الحملات مستمرة بألوان وأشكال وأسماء متجددة ومختلفة، ولكنها بالمجمل العام فشلت في تحقيق مآربها القصوى، حيث بقي الإسلام واللغة العربية والقيم والثوابت والآداب العربية بالنسبة والتناسب في جميع الأقطار العربية مصداقًا لمقولة شيخ المؤرخين العرب الدكتور العربي العراقي عبدالعزيز الدوري- رحمه الله: "الأمة العربية عصية في ضعفها وعصية في قوتها"؛ حيث لم نجد قُطرًا عربيًا استبدل لسانه العربي بلسان أعجمي رغم ضراوة الترهيب والترغيب وكما حدث مثلاً لدول الأمريكتين الوسطى والجنوبية والتي استبدلت لغاتها الأصلية باللغات الإسبانية والبرتغالية والإنجليزية والفرنسية، وكذلك بلدان كالهند والتي جعلت من لغة المُستعمر الإنجليزي لغتها الرسمية كلغة علوم ومعارف وإدارة، ونماذج الدول الأفريقية والتي أنقسمت ما بين ثقافتي الفرانكوفون (الفرنسية) والأنجلوساكسون (الإنجليزية)، إضافة إلى تحول العديد من تلك الشعوب إلى ديانة المستعمر وكنيسته المسيحية الأرثوذكسية أو الكاثوليكية.
اللغة العربية هي اللغة الوحيدة في التاريخ البشري التي يُقر علماء اللسانيات أنَّها لا يمكن أن تنقرض لأنها لغة "عقيدة وعبادة" لأكثر من مليار و800 مليون نسمة حول العالم، ولغة القرآن تكفل الله بحفظها إلى يوم البعث العظيم حيث يُقيض لها من الأسباب بسبب وبلا سبب سبحانه، كل ما نجح به الغرب هو استغلال حالة الوهن والشتات العربيين للالتفاف على بعض اللغات ذات الأبجدية العربية وتحويلها إلى أبجدية لاتينية في الكتابة كالسواحيلية المنطوقة في العديد من بلدان شرق ووسط أفريقيا، بينما بقيت كل من اللغات الفارسية في إيران والأوردو في شبه القارة الهندية تكتب بحروفها العربية ولغاية اليوم.
واليوم.. تجري محاولات بائسة ويائسة للإخلال بالموروث القيمي للأمة العربية وثوابتها عبر العبث بالتاريخ وتزييف المناهج التعليمية وتهميش الثوابت والقيم لتقبل التطبيع مع الكيان الصهيوني بطرق ناعمة ومدروسة، ولكنهم بلا شك سيلاقون مصير المستعمر القديم الجديد وستتبدد مساعيهم بحكم مقتضيات مناعة الأمة وتحصينها الرباني وتجدد وعيها تدريجيًا بما يُحاك لها رغم كل مظاهر الشتات والفرقة وأعراض الوهن الظاهري.
لن تقبل الشعوب العربية قاطبة من المحيط إلى الخليج بالتفريط في فلسطين والتطبيع مع الكيان الصهيوني الغاصب تحت أي مُسمى أو ذريعة كانت، فهذه الشعوب اليوم أكثر وعيًا وإدراكًا من استغفالها وتمرير غي بحجم التطبيع والقبول بعدو وجودي ليصبح عضوًا طبيعيًا في جسدها الطاهر، خاصة بعد تكشف حقيقة التطبيع ومراميه الحقيقية في اتفاقيتي كامب ديفيد مع مصر ووادي عربة مع الأردن واللتين قيدتا البلدين وجعلتهما مسرحًا مستباحًا للمزيد من التنكيل والوهن والتفتيت والعبثية!!
قبل اللقاء.. ما بُني على باطل فهو باطل.
وبالشكر تدوم النعم.