فضفضة في المقبرة!!

 

عبدالله الفارسي

(1)

كنتُ أشاهد فيلمًا أمريكيًا هادئًا جدًا، وبعيدًا عن ضجيج الآكشن وصخب البوكسنج والرصاص، والجانب الذي أثارني وجذبني جدًا في الفيلم هو أن بطل الفيلمأاو بمعنى أصح شخصية الفيلم الرئيسة، كان يقوم بعمل رائع في نهاية كل أسبوع.

ماذا تتوقعون أن يكون هذا العمل الأسبوعي الذي يقوم به هذا الرجل؟!

طبعاً مهما تخيلتم فلن تصلوا إلى معرفة هذا العمل؛ لأنَّ مثل هذه الأعمال لا يقوم بها إلا القلة النادرة من النَّاس، هم أولئك الذين تربطهم بالأموات علاقة غير عادية بالمرة. هذا الرجل كان يذهب إلى المقبرة في كل أسبوع لزيارة قبر والدته، طبعًا، ليست زيارته تلك زيارة عادية، لا أبداً، كان يزورها زيارة مُميزة، يدخل المقبرة، إنها مقبرة منظمة، نظيفة، هادئة، وجميلة.. القبور مرتبة ترتيبًا جميلاً، مقبرة لها مسارات للمشي، وأماكن للتحرك والجلوس فيها بحرية دون أن تقف على رأس ميت، أو تجلس على بطنه، أو تكسر جمجمته! مقبرة تحترم الآدميين كبشر، لهم حق الصيانة والرعاية والاهتمام أحياء وأمواتا!

كان الرجل يذهب إلى المقبرة كل أسبوع لزيارة والدته. لكن الشيء المذهل أنه كان يحضر معه كل ما كانت تحبه والدته، كان يحضر لها شرابها المفضل، ويحضر لها زهورها المفضلة، والشيء العجيب أنه كان يحضر معه جريدتها المميزة، ويقرأ لها صفحتها المحببة، كان قد جلب كرسيا صغيرا من قبل، وكان يضعه خلف شاهد القبر، فيأتي ويضع الزهور والشراب، ثم يسحب كرسيه، ثم يجلس ويبدأ بالتحدث مع والدته الميتة وكأنها جالسة بجانبه، يخبرها بكل التفاصيل التي عاشها في أسبوعه الماضي، ويشرح لها مواقفه وأحداثه، ويعتذر لها عن أخطائه وفواحشه، ويذرف أمامها بعض الدموع على سقطاته وزلاته.

ثم يبدأ بفتح الجريدة، ويقرأ لها كل عناوين الجريدة، ثم يفتح صفحتها المفضلة ويقرأها لها كاملة، وبهدوء تام. ساعتين كاملتين،  يظل جالسًا ملتزماً منضبطاً غاية الانضباط أمام قبر والدته، ثم ينصرف بأدب واحترام.

أليس هذا عملا عجيبا، ورائعا، ومثيرا للدهشة؟!

(2)

بصراحة، شعرت بالحقارة والتآكل أمام هذه الصورة النادرة.. رجل غير مسلم يحترم والدته ويبرّها بعد موتها بشكل غير عادي، ونحن المسلمين نكاد ننسى موتانا نهائياً بعد أن نواريهم التراب.

(3)

حادثة في المقبرة

تعالوا إلى مقابرنا العجيبة، تدخل المقبرة ولا تعرف أي اتجاه تسلك، لا تعرف أين تضع قدمك، تارة تدوس على قبر، وتارة تغوص قدمك في حفرة قديمة قد تكون قبرا مندثرا، وتارة تدوس على بطن أحد الأموات الراقدين بسلام منذ عشرات السنين.. قبور مبعثرة على اليمين وعلى الشمال.

لا أنسى في إحدى الأمسيات، حادثة تراجيدية مؤلمة وقعت أمامنا، كنا نحمل جنازة، ونلف بها حول القبور نبحث عن قبر جاهز، فالإضاءة كانت ضعيفة جدًا، بالكاد يرى الناس شواهد القبور المندثرة.. حملة النعش هنا، والمشيعون خلفهم هناك، والجميع يبحث عن طريق للوصول إلى القبر المنشود، وحين انتهينا من دفن الميت وتسليمه إلى السماوات عثرت قدم أحد المشيعين- وهو صديق عزيز وزميل عمل- في حفرة انكسرت على إثرها عظمة ساقه اليمنى مباشرة، وظل الرجل يعاني أكثر من سنتين حتى التأم الكسر وبرئ، وتعافت القدم، والكثير عرف وسمع بهذا الحادث وحوادث أخرى شبيهة تتكرر بانتظام في مقابرنا.

مقابر مخيفة ومرعبة، تارة يحفرون القبور في جانب جديد من المقبرة، ثم تتفاجأ بعد فترة، بأنهم يحملون ميتاً إلى حفرة في الجزء القديم من المقبرة لإزعاج أولئك الذين دفنوا منذ عشرين عاما أو أكثر، ليس هناك جهة تهتم بالمقابر، وليس هناك من يحافظ عليها ويصونها ويحفظها، ويخططها وينظمها ويرعاها ويقوم عليها، هي مجرد حفر، وجثث وأكداس من التراب، داخل أسوار متهالكة.

الأبواب مفتوحة مشرعة للكلاب والدواب والهوام، لكن أرجع وأقول كما قال المصريون الحكماء "الحي أبقى وأهم من الميت"!

(4)

كنتُ أزور قبر والدتي منذ سنتين، وانقطعت عن زيارتها، أنستني الدنيا اللعينة أمي وأبي وأحبتي الذين دفنتهم، ثم جئت لزيارة قبرها بعد مشاهدة هذا الفيلم وإحساسي بالغيرة من سلوك بطل الفيلم فلم أعرف أين مكانه، حاولت تذكر المكان وتحديد موقع القبر، فلم أفلح، فقد حاصرته الحفر والقبور من كل الجوانب، حتى التصقت ببعضها لدرجة أنك من الصعب أن تفرز القبور عن بعضها البعض.

سألت كل الراقدين بسلام عن مكانها، ولم يجبني سوى كلب أعرج أزعجه وجودي وأفزعه وقوفي.

(5)

لن تصدقوني لو قلت لكم إنني كنت أتمنى أن أعمل بوظيفة "حارس مقبرة"، نعم حارس مقبرة! كنت فعلا أتوق لهكذا وظيفة، لكن هذه الوظيفة للأسف ليست مدرجة ضمن وظائف الحكومة، فقامت الكلاب السائبة بهذه المهمة.

كنت أتمنى مجاورة الموتى وحرق الوقت معهم والجلوس بمعيتهم. كنت أتمنى أن أكون أقل قسوة معهم من أولئك الذين تركوهم ونسوا شواهد ومواقع قبورهم. كنت أتمنى المشي كل صباح بين القبور والسلام على كل قبر؛ حيث يفترض بحارس القبور أن يعرف كل قبر وصاحبه وربما جزءًا من سيرته وتاريخه.

كنتُ أتمنى أن أطوف عليهم كل يوم أخاطبهم بأسمائهم، وأحادِثهم فيما كانوا يحبون ويعشقون قبل موتهم، وألقي على كل واحد منهم نكتة طريفة يقهقه لها ويضيء بها وحشته وظلمة قبره.

وفي الليالي القمرية أضع كرسيًا وسط المقبرة، أقرأ لهم حكايات ألف ليلة وليلة وعنترة والزير سالم وأبي زيد الهلالي والتاريخ العربي المضحك، واطرد الحيوانات الصغيرة التي تحاول أن تزعج لياليهم وتنهش أحلامهم.

هولاء الراقدون الهامدون الصامتون يستحقون من يتحدث معهم، ويبدد وحشتهم ويقتل مللهم ويؤنس وحدتهم.

(6)

هل أمي تعرف الآن أنني هنا أحاول معرفة مكان قبرها؟ والآخرون الذين يجاورونها هل يشعرون بالغيرة من زيارتي لها ويتأسفون على أحبة وأبناء صرفوا العمر لهم وحرقوا السنين لأجلهم فتركوهم للتراب والطين؟

من غرائب الموت أنَّه الحقيقة الوحيدة الجلية الناصعة، حقيقة ناصعة لكنها مخفية بأسوار متهالكة، وأبواب متصدعة. يالها من أعجوبة! نمارس الكذبة الكبرى بكل مهارة وشجاعة وتفان ونفاق وجهاد وإتقان وكفاح، وندفن الحقيقة الكبرى في مقبرة متهالكة تكسوها نباتات الثرمد وتنام فيها الكلاب السائبة.

(7)

لا أدري.. هل لو زرعنا بين القبور شجيرات ظليلة ستخفف عن أصحاب القبور اللهيب وتطفئ عن صدورهم الفزع؟!

لعل أجمل ما في الموت أن الجميع يتساوون معه، الغني والثري والمتغطرس والجبار والفرعون يتساوون مع المسكين والفقير والضعيف والمنكسر. في المقبرة لا توجد شواهد تحمل أرقاما أحادية أو ثنائية مميزة، ولا ترصع الأكفان بالتيجان والسيوف والخناجر، كلهم في نفس الدرجة الترابية. الكل هنا مع التراب ومع الملح وبين كائنات صغيرة لا أعرف نوعها ولا جنسها تمارس وظيفتها الترابية والبيولوجية.

(8)

كنَّا لا نعرف الموت ولا نفهمه، ولكن حين سرق منِّا الموت أحبتنا قتلنا بكثافة وأوجعنا بقسوة درجة تتجاوز قسوة الموت. لكن حين نموت نحن نكون مُمتنين للموت لأنه خلصنا من كابوس فظيع يسمى الحياة. طبعًا سنكتشف أن الموت راحة عظيمة حين ندرك أننا قطعنا دروب الحياة بقلوب رقيقة وأفئدة رحيمة وأرواح نقية. أصحاب القلوب الرقيقة الرحيمة هم فقط من يدركون أنَّ الحياة كابوس فظيع سيأتي الموت على صهوة جواد أشهب ويقتلع رأسه.

(9)

قريبًا سأكون بجوارك يا أمي، قريبًا جدًا، أشعر بأنني اكتفيت من الحياة درجة التخمة اكتفيتُ بما حققته فيها، اكتفيتُ من الأخطاء والأوجاع والأشواك، اكتفيتُ من الضحكات والقهقهات والصرخات، اكتفيتُ من الأكاذيب والعبث والقرف والألاعيب، اكتفيت بما دمرته وبما بنيته، اكتفيت بما زرعته وبما أحرقته، اكتفيت بما صنعته وبما كسرته ومزقته.

(10)

أروع ما في الموت هو اقترابك من أولئك الذين تفتقدهم بعنف وتشتاقهم بلهفة، وتشعر أن الأرض سرقتهم منك، فعشت بعدهم ناقصاً مبتورا مترنحًا.

لعل وعسى قريبًا أنام بجوار قبر أمي وأصغي السمع، وأنا تحت التراب لأي حذاء سيضل طريقه إليَّ ويتوقف خلف شاهد قبري ويهمس بلوعة وحرقة وحنين: "لقد اشتقنا إليك يا أبي"!