المؤثرون الجدد في الرأي العام

 

د. محمد بن عوض المشيخي

أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري

 

نحن نعيش زمنًا جديدًا وعالمًا متغيرًا ومرحلة غير مسبوقة في تاريخ النظم السياسية والاجتماعية المعاصر للشعوب والأمم؛ فالمواطن البسيط والمهمش في الأزمنة الغابرة أصبح شريكًا أساسيًا في العملية السياسية شئنا أم أبينا.

وذلك من خلال تمثيله أو محاولة تقمصه لدور الصحافة الحرة، وكذلك دور أحزاب المعارضة في الدول الديمقراطية لمُراقبة أخطاء المسؤولين وصناع القرار؛ خاصة الذين ما زالوا يفكرون بعقلية المتنفذ الذي هو فوق القانون، ولا رقيب عليه ولا حسيب؛ بل ما زال بعض هؤلاء المسؤولين يتمادون ويزعمون أن قرارتهم مثالية وسياساتهم معصومة من الأخطاء والخطايا، إلا من رحم ربي منهم، معتمدين في ذلك على المجاملات، وما يتوقعونه ويلمسونه من تلميع وإشادة عبر وسائل الإعلام الحكومية والخاصة من المديح والثناء طوال التغطيات الإعلامية اليومية والأسبوعية التي لا تنقطع، لدرجة يتخيل بعض كبار المسؤولين في بلداننا العربية، وكأنهم أتوا من كوكب آخر؛ فهؤلاء أناس خارقون في ذكائهم ومنزهون من العيوب، فيصدقون تلك المثالية ويتخيلون السمو والرفعة والمقدرة التي لا حدود لها، فيغلقون مكاتبهم وهواتفهم عن الناس، ويزعمون أنهم يعملون بيعدا عن أعين الرأي العام، وقد يكون المجتمع نفسه سببًا في صناعة هذه الشخصيات الطرزانية التي تتميز بالكبر والاعتداد بالنفس والتفرد في كل نواحي الحياة بسبب ما يكيلونه من رياء ونفاق في الوجه ثم يكون لهم رأي مغاير بعد المغادرة.

المسؤول في الأساس تم تعيينه لخدمة الوطن والمواطن وليس للتعالي على الناس والمزايدة عليهم؛ في الحقوق والمزايا المادية والمعنوية، وحتى نكون واضحين ودقيقين في كلامنا، كان العديد من المسؤولين المتنفذين يتولون مناصب وزارية، إضافة إلى رئاسات لمجالس شركات حكومية ومشرفين على مجالس اقتصادية وتعليمية وهيئات حكومية أخرى مقابل رواتب ومكآفاة غير منطقية؛ وهنا تكمن المشكلة!

والسؤال المطروح: كيف كان هؤلاء يقومون طوال العقود الماضية بكل هذه الواجبات والأعمال الصعبة المؤكلة إليهم؛ لكون الوقت المتاح لهم للعمل والإنجاز، لا يتجاوز بضع ساعات في اليوم؟ في الوقت الذي لا تستطيع أي شخصية عامة في دول العالم المتحضر والتي تحارب الفساد، الجمع بين وظيفتين في وقت واحد؛ مهما كانت خبرات ومؤهلات ذلك المسؤول. وهل حققت تلك المؤسسات التي يتولاها شخص واحد من منظور أحادي أهدافها؟ بالطبع لا!

صحيحٌ أنَّ الأمر تغير إلى حد كبير بعد دمج بعض الوزارات وإلغاء بعضها، وإعادة هيكلة النظام الإداري للدولة بالكامل، وذلك في النصف الثاني لعام 2020؛ إذ جرت مُعالجة هذه القضية التي شغلت الرأي العام العماني لسنوات طويلة، وعلى وجه الخصوص الشركات الحكومية التي استنزفت عشرات الملايين من الريالات التي كانت تُصرف لرؤساء وأعضاء مجالس والرؤساء التنفيذين لهذه الشركات التي تأسست لذلك الهدف فقط؛ وليس لرفد موازنة الاقتصاد الوطني بالمال.

لا شك أنَّ هناك مطالبات واضحة ومشروعة من الرأي العام تتجلى بمحاسبة كل من يثبت تورطه في المال العام بدون مجاملة وأن تبدأ المحاسبة أولا من القمة وليس القاعدة وقبل ذلك كله إجبار رؤساء الوحدات الذين ثبت استغلال وهدر المال العام خلال توليهم المنصب، بالاستقالة حتى ولو أثبتت التحقيقات عدم علمهم أو تورطهم في تلك الجرائم، انطلاقاً من المسؤولية الجماعية للرئيس والمرؤوس؛ كما هو الحال في الدول التي تطبق معايير الشفافية والنزاهة.

لقد أتاحت التكنولوجيا المتقدمة والإنترنت ومنابرها المتعددة فرصة ذهبية للمواطن العادي أن يكون له رأي آخر؛ ونظرة نقدية صائبة حول السياسات الاقتصادية والتنموية الموجهة له كعضو في المجتمع المحلي؛ ويختلف في ذلك عن النظرة الأحادية للإعلام التقليدي الذي تعود على الخطاب التنموي. من هنا، انتشرت على نطاق واسع بين عامة الناس ظاهرة النقد اللاذع وعدم الرضا عن الذين يتولون وضع السياسات الاقتصادية والمنفذين لها في السلطنة، والسبب في ذلك في اعتقادي يعود إلى هفوات اللسان غير المحسوبة من البعض، والمتمثلة في تصريحات بعض الوزراء والوكلاء التي تحمل مضامين استفزازية للرأي العام، وغير مرحب بها من المجتمع؛ بل وحتى بعض المسؤولين المنفذين لرؤية "عُمان 2040"، قد دخلوا على الخط، لكي يتحدثوا، بكل ثقة عن المستقبل الذي قد يتحقق بنهاية الرؤية في 2040، متناسين ما قد تواجهه الخطط الاستراتيجية من تحديات قد تحد من تحقيق بعض الأهداف المرسومة في الرؤية مما يترتب على ذلك سخط رواد التواصل الاجتماعي بهذا الكلام السابق لأوانه.

وهكذا بدأت بالفعل إطلالات المسؤولين الحكوميين على الرأي العام بمفاجآت من العيار الثقيل، طوال العقد الماضي بخطابات التنفير والوعيد دون ضرورة ولا حاجة لذلك السباق المارثوني المثبط للهمم ويعمل على رسم صورة مخيبة لآمال المواطن الذي تتقاذفه أمواج المضامين والأخبار السلبية، فكانت البداية بتحجيم هيئة حماية المستهلك سنة 2014 وحصر مراقبتها على 23 سلعة فقط، ثم ما عرف بـ"الشاورما النفطية" مرورًا بمزاعم البعض بعدم مسؤولية الحكومة عن توظيف الباحثين عن عمل، وانتهاءً بجدلية سقف سعر برميل النفط في الأسبوع الماضي؛ إذ يترتب على ذلك كل مرة ما نشاهده ونتابعه بين وقت وآخر من وسوم رافضة من الجمهور عبر منصة العفصور الأزرق "تويتر". وتصل بعض تلك الوسوم في منصة تويتر إلى ما يعرف بـ"الترند العالمي"، نتيجة للتفاعلات المحلية والعالمية؛ لقد أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي بحق منافس بل ومضاهية للمجالس الرقابية والتشريعية في معظم دول العالم. ولعلنا نتذكر في الصيف الماضي عند ارتفاع تعرفة أسعار الكهرباء واشتعال منابر وسائل التواصل الاجتماعي بكم هائل من الرسائل التي تناشد الحكومة بإعادة النظر في سعر الفواتير التي كانت خارج إمكانات المواطن العادي.

لقد كشفت المقابلات التلفزيونية- في شهر رمضان الماضي في برنامج "ليل مسقط" على تلفزيون السلطنة، وكذلك ما بثته قناة العربية السعودية خلال استضافتها لبعض الوزراء لاحقًا-  الفجوة الكبيرة بين ما يفكر ويخطط له الوزير، ثم تنفذه وزارته من جانب وما يتوقعه المجتمع المحلي ويأمله من الخدمات والسياسات التنموية للحكومة لتحقيق الرفاه والرخاء الاقتصادي المطلوب.

ووسط هذه التجاذبات والحراك الاجتماعي بين صناع القرارات التنموية من طرف والمجتمع من طرف آخر، تأتي القيادة الحكيمة في هذا البلد العزيز في المجمل وتتدخل في الوقت المناسب، من أجل تخفيف من آثار بعض هذه السياسات والقرارات الصعبة على المواطنين لتستمر ثمار النهضة العمانية المتجددة، التي وضعت السلطنة في المكانة التي تسحقها بين دول المنطقة من حيث الإنجازات الحضارية والعمرانية. كما إن التوجيهات الصريحة لجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- يحفظه الله- وتركيزه على واحد من أهم مفاهيم التنمية المعاصرة والمعروف بـ"اللامركزية" خلال حديث جلالته للشيوخ والمحافظين والولاة في حصن الشموخ في محافظة الداخلية، والتوجيه السامي بمضاعفة مخصصات هذه المحافظات، على أن يتم متابعة عن قرب، أبرزت كيفية التخطيط والتنفيذ لتلك المشاريع انطلاقًا من احتياجات وأولويات الولايات من جلالة السلطان نفسه، فهذا النهج الجديد لا يعني بأي حال من الأحوال الاعتماد على التقارير التي ترسل من المنفذين للخطط فقط؛ بل المتابعة والمراقبة التي ستتوسع وتتنوع طرقها من خلال مختلف القنوات الرسمية والشعبية، فهناك المواطن الصحفي الذي قد يصل صوته مباشرة لجلالة السلطان؛ فالنجاحات أو الإخفاقات التي قد تحدث نتيجة صرف العشرين مليون ريال عماني المخصصة لكل محافظة، وآلية توزيعها بشكل عادل على الولايات التابعة لتلك المحافظات، وعلى وجه الخصوص طبيعة المشاريع المنفذة وأهميتها للتنمية المحلية لتطوير المدن والقرى ستكون تحت المجهر من خلال العين الثاقبة لجلالة السلطان الذي وعد بمتابعة كل كبيرة وصغيرة خاصة في المحافظات البعيدة عن مركز القرار؛ مسقط.

وفي الختام.. يجب الاعتراف أن حدة ردود الأفعال السلبية من معظم رواد وسائل التواصل الاجتماعي، وكذلك من القاعدة العريضة من الشعب والذين يُصنفون بالرأي العام المنقاد الذين يتلقفون ما تأتيهم من اخبار من الآخرين وان كانت غير دقيقة دون تمحيص، كل ذلك أصبح يشكل هاجسًا وتحديًا للمسؤولين في البلد، ويجب أن لا ننظر بعين واحدة لكل ما تم إنجازه في هذا الوطن العزيز، فهي عين الرافض والمشكك بالمسؤولين، ووضعهم جميعًا في خانة الاتهام؛ بل يجب أن ننظر بعيون الرضا والتسامح للذين يعملون بإخلاص وهم كُثُر؛ لكوننا لا نملك دليلًا دامغًا على المخالفات التي يعتقد البعض أنهم قد ارتكبوها، فبعض الظن إثم.

إن المرحلة المقبلة تتطلب منا جميعًا العمل كفريق واحد، من مواطن ومسؤول من أجل الارتقاء بهذا الوطن تحت راية القيادة الحكيمة لجلالة السلطان الذي يعمل بجهود مضاعفة لترسيخ دولة المؤسسات والقانون.