مسعود أحمد بيت سعيد
تجربة أمريكا اللاتينية تستحق التوقف عندها، بينما سعت الولايات المتحدة الأمريكية طيلة العقود الماضية ولا تزال، إلى فرض أجندتها الخاصة على شعوب القارة المناضلة، من خلال التدخل في شؤونها الداخلية عبر أدواتها المحلية، مثل كبار الرأسماليين وجنرلاتهم العسكريين وقطاع واسع من المخبرين والسماسرة تحت عناوين مختلفة حقوقية وسياسية وغيرها، الذين يقدمون مصالحها على مصالح شعوبهم وأوطانهم وقصة الانقلابات على نتائج الانتخابات الديمقراطية معروفة.
بينما انتصارات القوى التقدمية في صعود مُستمر، مهما تحدث البعض عن محاسن الرأسمالية، فإنَّ الممارسة الفعلية تؤكد أن جوهرها الحقيقي قائم على الاستغلال والأنانية والمصالح الفردية وأن تطبيقاتها العملية تقف بالضد من مصالح الأغلبية الساحقة من البشر في كل أقطار العالم. حتى قضية الديمقراطية ولعبة الانتخابات وهامش الحريات التي تتمتع بها هي في جوهرها ذات طابع طبقي محض. لذا لا تتورع عن التشكيك ومحاصرة أي عملية انتخابية لا تحمل أنصارها إلى سدة الحكم.
في التجربة اللاتينية، الصراع مُحتدم حول الاختيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ويأخذ طابعا عنفيا في الكثير من المحطات. وبدأت الأمور ترسو تدريجيا نحو الخروج الشامل من القبضة الأمريكية، في حين أن الجماهير التفت حول القوى والأحزاب ذات الاتجاه اليساري التي تحمل البديل الاقتصادي والاجتماعي. ولم يكن الأمر عاطفيا فقط؛ بل لمست معظم الشرائح الاجتماعية نتائج الرأسمالية وتطورها وما تلحقه بأوضاعها الحياتية من أضرار مباشرة. لكن هذا ليس سوى جانب من الصورة، بينما في الجانب الآخر طبيعة تلك القوى وبرامجها السياسية وتحالفاتها الوطنية والتقدمية وتجذرها في عُمق الطبقات الشعبية الفقيرة التي خبرت عبر تاريخها الطويل كل الأشكال والأساليب النضالية. وقد اختارت الطرق الديمقراطية السلمية وسيلة لتحقيق أهدافها؛ حيث حققت عبر صناديق الاقتراع ما عجزت عن تحقيقه بالعنف الثوري والكفاح المسلح. ونجحت في صياغة التحالفات الوطنية ارتباطا بجدية طرحها السياسي وشعورها العالي بالمسؤولية التاريخية.
ومن البديهيات أنَّ أي حزب سياسي لا يكون موضوع السلطة محور نضاله لا أفق تاريخ له ويفقد من الأساس مبرر وجوده. وأسباب نجاح التجربة اللاتينية تتمثل بالتحديد في أسباب فشل التجربة العربية ذات الظروف المشابهة إلى حد كبير سواء من حيث التركيبة الاقتصادية والاجتماعية أو التطور الثقافي والحضاري وطبيعة التحديات والتدخلات الأجنبية أو لجهة الأهداف التي تسعى لتحقيقها.
لقد وضع اليسار اللاتيني السلطة هدفًا مباشرًا، كما إنه محاط بشبكة واسعة من النقابات العمالية والمهنية وهيئات المجتمع المدني شديدة التأثير والفاعلية في واقعها الاجتماعي ويقدم خطابا سياسيا واضحا. وهذه العوامل وغيرها، قد عززت من فرص نجاحه، بينما اليسار العربي المنقسم تنظيمياً وسياسيًا لم يستطع إلى الآن رغم نضج الظروف الموضوعية أن يقدم شيئًا يذكر في هذه المرحلة مع الإقرار بتضحياته ودوره الكبير في نشر مفاهيم الحرية والعدالة الاجتماعية وحقوق الأقليات وتحرير المرأة التي انفرد بها تاريخيًا. ودون أن نغفل كذلك فارقًا جوهريًا؛ وهو أن اليسار العربي لا سند إقليميًا له، ويعمل وسط مناخ موضوعي أكثر تعقيدًا، وذلك ولّد بدوره قراءةً سياسيةً خاطئةً، جعلت بعض أطرافه ينشط سياسيًا وإعلاميًا في الترويج للتيارات الرجعية دون قيد أو شرط. ولم تستطع القوى التقدمية العربية أن تشكل جبهة وطنية عريضة تحت قيادتها وسيادة برنامجها السياسي، وهي تعبئ جماهيرها نظرياً في خدمة أجندة قوى يمينية لا تحمل مشروعًا تقدميًا على المستوى القومي، مستندةً إلى حالة من الإحباط غير مبررة.
من الطبيعي والحال كذلك أن تفشل في قيادة التغيير الديمقراطي، وهذا في العمق ضرب فكرة البديل التقدمي، وهنا يحتار العقل مما يطرحه البعض؛ إذ لا شيء عن وحدتها وبرنامجها السياسي وتفعيل مكوناتها، كل ما هنالك سيل من المديح والإشادة والثناء على الآخرين. والسؤال كيف يمكن أن تلتف حولها الجماهير؟ نعلم كما يعلم غيرنا طبيعة المرحلة وصعوبتها ولكن ذلك لم يكن يوماً مبررًا للاستنكاف عن شق مجرى نضالي جديد مهما كان شاقًا وصعبًا. يقول البعض إن هناك قوى كثيرة تقاوم، وترفع شعارات معادية للإمبريالية والصهيونية وهذا صحيح، لكن الصحيح كذلك أنها تفعل ذلك دفاعًا عن مصالحها ووجودها ووفق أجندتها السياسية وضمن أيديولوجية لا علاقة لها بمشروع قومي تقدمي شامل لا من قريب ولا من بعيد وهي بالطبع غير مُلامة. فتلك مهمة الجماهير العربية وقواها الطليعية ولا يعقل أن يهمل المشروع القومي التقدمي بحجة أن هناك من يرفع شعاراً معاديا للإمبريالية والصهيونية. وقيام التحالفات الواسعة لمواجهة القوى المعادية مهم جدًا، وأن بناءها على أسس واضحة أكثر أهمية.
إن مخاطبة القوى الحليفة والصديقة من خلال طرح موضوعي جاد وصادق وجريء لا يخضع للحسابات الضيقة الراهنة بحيث يغيب المشروع القومي التقدمي وضرورته التاريخية شرط أولي؛ حيث إن هزيمة المشروع الإمبريالي الصهيوني في منطقة الشرق الأوسط بمعناه الشامل والحقيقي غير ممكنة، إلا بالجماهير العربية، فيما يراد تجسيد هذا المخطط على الجغرافية التاريخية العربية وعلى حساب حقها في التحرر والوحدة والتقدم الاجتماعي، وهي بالضرورة لن تعبئ طاقاتها وإمكانياتها، إلا في إطار مشروع قومي تقدمي يُلبي كل طموحاتها والذي لا أفق له خارج التصادم المُباشر مع مشروع الهيمنة الإمبريالية والصهيونية وتجسيداته العملية. ولا نضيف جديدًا عندما نقول إنَّ الجماهير الشعبية لن تمنح ثقتها لأي مشروع لا يرفع راية الكفاح بكل أشكاله ضد العدو.