إعادة كتابة العقد الاجتماعي (8)

"العصبية والغنيمة"

د. عبدالحميد إسماعيل الأنصاري

سبق وأسلفنا في المقالات السابقة أن "العصبية" هو داء العرب الأكبر الذي استعصى على العلاج حتى اليوم. وعندما جاء الإسلام بتعاليمه وقيمه السامية، وقرر المساواة والعدالة، استطاع الرسول -عليه الصلاة والسلام- وعبر التربية الإيمانية الطويلة للصحابة -رضوان الله عليهم- في مكة والمدينة، ترويض هذه العصبية وتوظيفها طاقة إيجابية في خدمة الدعوة والدولة. لكنَّ العرب سرعان ما ارتدُّوا إلى عصبياتهم القديمة. وكانت دولة بني أمية النموذج الأصفى للعصبية العنصرية التي أصابت أعظم مبادئ الإسلام الذي جذب الشعوب المضطهدة إلى الإسلام. وهو "المساواة" في مقتل، كانت دولة طبقية عنصرية بامتياز، لا يطيق حكامها "المساواة"، مساواة العرب بالعجم (الموالي) الذين دخلوا في الإسلام عقب ﺍﻟﻔﺘﺢ العربي في فارس ومصر والمغرب.. فكان ذلك سبب زوالها.

ويذكر الدكتور عبدالحليم عويس -رحمه الله- في كتابه "دراسة لسقوط ثلاثين دولة إسلامية" والصادر عن دار الصحوة بالقاهرة سنة 1989، أن "العنصرية الأموية" وهي شكل من العصبية القبلية المغالية جعلت حكام بني أمية -باستثناء الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه- يتعصبون لجنس العرب وتقاليدهم ويرفعونهم على بقية الأجناس المسلمة؛ فأثاروا الأحقاد والكراهية في نفوسهم، وجعلهم ينضمون للثائرين على دولة بني أمية ويتعاونون معهم في محاربتها. وهذا هو السبب ﺍﻟﺠﻮﻫﺮﻱ في زوال هذه الدولة العصبوية الظالمة، ولم تعمر أكثر من تسعين عاماً، وسقطت في العام 123 هجري. ونكل بخلفاء بني أمية شر تنكيل، وتلك عاقبة من يبني دولته على العنصرية البغيضة، ولكن قومنا لا يتعظون ولا يتعلمون من دروس التاريخ ما يجعلهم يصححون أخطاءهم ويطورون أوضاعهم إلى الأفضل والأرقى؛ إذ لايزال بيننا من يتباهى بعنصريته الكريهة ويتفاخر بعصبيته المتخلفة ويتبجح بهماعلناً عبر وسائل التواصل. ويراها امتيازاً خاصاً مستحقاً له من دون الآخرين، ولله عاقبة الأمور!

العصبية للجنس أو الطائفة انتماءات دونية ضيقة لا تبني دولة مدنية متطورة تسعد أبناءها وتحفز طاقاتهم للبناء والتنمية، وما تجاوزت المجتمعات التي أصبحت اليوم مزدهرة تحقق الإنجازات الرائعة النافعة لها وللبشرية جميعاً إلا بعد أن طوت صفحة الماضي العنصري البغيض وجعلتها وراء ظهرها. وانشغلت بتحديات الحاضر والمستقبل. والعاقبة للمتقين.

هلَّا تساءلنا: لماذا الإصرار على التمسك بالعصبية القبلية والطائفية والتفاخر بها على حساب دولة القانون والمواطنة المتساوية؟!

إنَّه الطمع في الاستئثار بـ"الغنيمة" للقبيلة والطائفة دون بقية المواطنين. وقصة "الغنيمة" في تاريخنا غريبة، كما يقول الدكتور عبدالحليم عويس، والدرس الذي تلقيه علينا.. كذلك غريبة !!

لقد بدأت أولى هزائمنا بسبب الطمع في الاستئثار بـ"الغنيمة"، ووقفت آخر فتوحاتنا كذلك بسبب "الغنيمة"؛ فقصة "الغنيمة" هي قصة "الهزيمة" في تاريخنا، وإليك التفصيل كما يذكره عويس :

كان قائد المعركة الأولى هو الرسول عليه الصلاة والسلام، وخالف الرماة أمره، وخافوا من أن تضيع فرصتهم في جمع "الغنيمة"، فكانت "أُحُد" وشهد الجبل العظيم استشهاد سبعين صحابياً من خيرة المسلمين.. بسبب "الغنيمة"، نعم بسبب "الغنيمة"!

وكان آخر معارك الفتوحات الإسلامية -عبدالرحمن الغافقي- آخر مسلم قاد جيشاً إسلامياً منظماً لاجتياز جبال البرنس لفتح فرنسا والتوغل. بعد ذلك في قلب أوروبا وهزم الغافقي.. سقط شهيداً في ساحة "بلاط الشهداء" إحدى معارك التاريخ الخالدة الفاصلة.. وتداعت أحلام المسلمين في فتح أوروبا. وكان ذلك لنفس السبب. أعني بسبب "الغنيمة".

وأخيراً.. إعادة كتابة العقد الاجتماعي تتطلب أن ننبذ رواسب الماضي العنصري المفرق لأبناء المجتمع الواحد، لنجعلها خلف أظهرنا من أجل مستقبلنا ومستقل أبنائنا، لنختر من الماضي جانبه المشرق والجميل، ولنطور من تشريعاتنا وأنظمتنا من بقايا التمييز التعصبي ولننشغل بتحديات الحاضر وقضايا المستقبل؛ فالذي يعيش في الماضي وينشغل بقضاياه المعوقة، يهرب منه الحاضر ولن يلحق بالمستقبل.. لنجعل كل ذلك في ذمة التاريخ.

 

* كاتب قطري