وهم الحقيقة

 

 

عائض الأحمد

ليست كما تراها، ولن تكون كذلك، فما تشاهده جزء يسير من كل، لا يعلمه أحد إطلاقاً، مهما حاول أو ادعى، وستظل كذلك سنة كونية ملهمة تصنع منك راويا ربما متحدثًا جائزًا ساردًا قصصًا، قد تكون شاهدا على العصر، قد نرى ذلك ولكن لن تجعلك تملكها وتصنع أحداثها كاملة، المستتر يظل غائبا عنك وحاضرا لدى آخرين وتمضى الحياة، بعيون مشاهديها وأفكارهم، وما قد تنسجه مخيلاتهم إبداعا أو عبثا، لا فرق بينهما عندما تميل إلى اختيار أحدهما فيتلاشي النقد مدحا أو قدحا، وكأنك تحمل كأس ماء شفاف أراه ممتلئا وتراه ناقصا لا يكفى ولا يروى أحداً سواك.

الإبداع لم يرتبط يوما بخلفية أو بيئة معينة وقد أكدته دراسات متعددة فى هذا الصدد ولم تربطه بغباء أو ذكاء، وإنما بشغف وقدرة على الاستيعاب والتكيف مع محيطه بقليل من الصبر والمواظبة، وعدم التشدق بامتلاك الحقيقة، بل بالسعي لها وليس الكمال للوصول إليها، فحديثك عن الكمال منقصة، وتأويل الصعود يوردك هبوطا يتبعه إطلاق ضحكات فجَّة توردك المهالك، إن استمرأت التشدق دون إمعان لذتك بأنَّ الحقيقة مشاعة بين النَّاس، والبحث جارٍ عنها، كما هي ونراها من أوجه متعددة، وليست من خلال "نظارتك" الثمينة، وعقلك المتكلف علماً ومعرفة.

هل تساءلت يوماً كيف لك أن تصل إلى هنا وكان أقرب الناس لك يفوقك قدرًا وقيمة ومعرفة، إنها الحقيقة الغائبة عن كاتب هذه السطور، كما هي غائبة عن كل من حولك، من يشاهدك ينظر من زاويته، ولعلها في جزء يسير لن يصل إلى أبعد منه.

أقبِل وتحلَّ بحكمة الاختلاف، ثم ارصد حالتك وتوقع المزيد دون أن تطلق أحكاماً مسبقة، وعليك أن تؤمن بأن القصة لم تنتهِ بعد، ففصولها موصولة بما خفي عنك، وليس ظنًا منك بنهايتها وتقييم ردود أفعال النَّاس وكأنك صانع الحدث.

علَّمتنى الحياة أن الشرود والانعزال ليس سوءًا فيك، بل رحمة بمن حولك وتلمسًا لبعض ما تخفيه الحقيقة المؤلمة لك، فما تجهله أكبر بكثير من علم أحدهم بأنَّ البادية صحراء وقلة ماء وشظف عيش، يرهق أمثالك إن عاشه يومًا مدعيًا أن جده الأكبر بدوي وابن بدوي.

وختاما.. لا تعتقد أن شاهد الزور رجل أخرق.

-------------------

ومضة:

لن تمضي أبعد من ذلك، ليست كما تظن، فالوجه الآخر تخفيه حيوات أُخَر.

يقول الأحمد:

لم يعد للعتب باب يطرقه "اختفى بابه وكُسِرت يداه".

فعُزلتي نافذة على ذاتي أراقب فيها السماء، وأركن إلى وحي الروح  دون عناء العابثين، وأعين المتربصين.