علي بن مسعود المعشني
التاريخ التركي بشقه الطوراني مليء بالأحلام والأوهام المتجددة بالسيطرة مُجددًا على جغرافية ما يسمى بالدولة العثمانية، والتي يُصر البعض على تسميتها بـ"الخلافة"، رغم كونها احتلال بواح للوطن العربي وسبب رئيس لتخلف الأمة، وشرخ عميق في مسار حلقات سلسلة الحضارة العربية الإسلامية؛ بفعل البدائية التي رسمت ملامح الدولة العثمانية، والتي لم تنتج سوى عسكرة المجتمع وإسلام الدروشة، والتتريك البواح ومُحاربة العرب واللغة العربية في عقر دارها، في سعي حثيث للإخلال بنواميس التاريخ؛ حيث لم تقم دولة أو حتى دُويلة في جغرافية الوطن العربي عبر التاريخ، إلا وجعلت من العروبة واللغة العربية هوية لها، انصياعًا للهوية الكبرى للحضارة العربية الإسلامية، حتى وإن كان منشأها الأصلي أو من قام بها أعجمي!
وفي زمن احتضار الدولة العُثمانية وبالتحديد في عهد السلطان عبد الحميد الثاني؛ حيث استدعى السلطان عبدالحميد العلامة المُستنير جمال الدين الأفغاني وشكا له وهن الدولة وضعفها التدريجي، وطلب منه النصح لإعادتها إلى سابق قوتها، فنصحه الأفغاني بالاحتكام إلى سنن تاريخ الحضارة العربية الإسلامية واحترام اللغة العربية وعودة هيبتها ونقل عاصمة الدولة العثمانية من الأستانة إلى إحدى الحواضر المعروفة تاريخيًا القاهرة أو دمشق أو بغداد، لكن على ما يبدو أنَّ قدر الدولة العثمانية حينها وعلاتها، فاقت العلاج، والذي جاء على ما يبدو متأخرًا في محاولة لترميم الشرخ وتجسير الفجوة التي أحدثها العثمانيون بينهم وبين رعاياهم وخاصة العرب وبكل طيفهم وبلا استثناء.
لم يقتصر ضرر العثمانيين على العرب عند محاربة العروبة واللغة العربية؛ بل تمادى ليصل إلى تسليمهم طوعًا للمستعمرين الإنجليز والفرنسيين، ويكفي التذكير هنا فقط بأنّ الانتداب الفرنسي على دول الشام أو ما يعرف بـ"سورية الكبرى" تم وهي محسوبة على العرش العثماني، وتم قبلها احتلال كل من الجزائر وتونس والمغرب من قبل المحتل الفرنسي، وهي تحت الحكم العثماني؛ بل وتم تسليم ليبيا للإيطاليين عام 1911 من قبل العثمانيين مقابل جزيرة في بحر إيجه، بينما كان الوالي العثماني يتربع في قصره وبين حاشيته وجواريه في طرابلس العاصمة الليبية!!
وفي عام 1950 وصل عدنان مندريس إلى السلطة في جمهورية تركيا الحديثة، وعمل مندريس في سياساته على محورين؛ المحور الأول: تمثل في مُعاداة العرب والانضمام لحلف بغداد الذي أنشأته أم الكبائر إنجلترا عام 1955م لمحاربة المد القومي العربي الناصري حينها، وضم كلًا من تركيا (القوة الفاعلة) وإيران الشاة والعراق الملكية وباكستان، وانضمت تركيا في عهد مندريس إلى حلف الناتو، وشاركت بقواتها في الحرب الكورية عام 1950، والتي انتهت بتقسيم الكوريتين. أما محور سياسة مندريس الثاني، فقد كان داخليًا؛ حيث شجّع عودة المدارس الدينية والتي أنتجت إسلام الدروشة في العهد العثماني وحاربت الطوائف والأديان ومختلف المذاهب التي لا تنتمي لها، وشجع عودة الإقطاع تحت مبرر النهوض بالاقتصاد التركي، الأمر الذي سبب استفزازًا جليًا لأدبيات الدولة العلمانية ومؤسستها الحامية لها وهي مؤسسة الجيش التركي.
لم يطل الأمر طويلًا لمندريس؛ حيث تفكك حلف بغداد وأنفرط عقده بثورة 14 يوليو 1958 في العراق أولًا بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم ورفيقه عبدالسلام عارف، والتي أعلنت في بيانها الأول انسحاب العراق من حلف بغداد، ثم أتت قضية كشمير والتي كانت سببًا في إعلان الرئيس أيوب خان ورئيس حكومته ذو الفقار علي بوتو، الانسحاب من حلف بغداد؛ لشعورهم بخذلان الحلف لدولتهم في قضية كشمير، ومساندة الادعاء الهندي، ولم يبق في الحلف سوى تركيا وإيران وإنجلترا الراعية، ولكنه فقد الكثير من تأثيره عربيًا، خاصة بعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، والذي تسبب في فراغ سياسي كبير بالمنطقة، ملأته أمريكا بجدارة لاحقًا، كما أكسب "مصر عبد الناصر" تعاطفًا دوليًا وعربيًا جارفًا.
في عام 1960، أُعدم عدنان مندريس بتهمة الإخلال بثوابت الدولة العلمانية بتركيا ومحاولة إعادة ما اعتبرته مثالب في جسد الدولة الحديثة والمتمثلة في تشجيع عودة الدروشة والإقطاع، وهما من سمات ودعاوى من يُسمون بـ"أنصار الخلافة".
واليوم ينبري الرئيس رجب طيب أردوغان ليحمل مشعل العداء "الحلم الطوراني" مجددًا تجاه العرب وفي الوطن العربي، لهذا لا غرابة من استخدامه لأسلوب المؤثرات العقلية الفاخرة لتخدير عقول العثمانيين الجُدد من معتنقي الأردوغانية في الوطن العربي وتركيا، وقد شجعه الغرب ومهَّد له مطية التنظيم الدولي للأخوان المسلمين للقيام بدوره الوظيفي على الوجه الأكمل. وعلى ما يبدو أن أردوغان لم يتعظ من نهاية سلفه مندريس، والذي تسلق عبر الدين لتحقيق مآربه وإخفاء نواياه الحقيقية؛ حيث عبث مندريس بداخل الدولة التركية ومكتسباتها، ثم عبث بجواره الحيوي وقبِلَ بدور وظيفي لم يمكنه من الصمود طويلًا. ووجد الغرب في أردوغان كل مقومات الشخصية الوظيفية لزعزعة استقرار الأقطار المحورية في الوطن العربي؛ حيث تواجد في العراق وسورية وليبيا وتحالف مع إثيوبيا لزعزعة استقرار مصر والسودان وتهديدهما.
ولقد كان للحشد العربي تجاه تنظيم الإخوان وتفكيك مخططهم وفشل أردوغان في العثور على حاضن شعبي قوي ومؤثر في الوطن العربي رديفًا للأخوان أو بديلًا لهم وانهيار الليرة التركية وتعاظم الأزمات الاقتصادية، كل ذلك أخضع أردوغان كتاجر سياسة ودين محترف وجعله رهن وطوع الأقطار العربية التي عمل على زعزعة الاستقرار بها، وخاض حروبًا بالوكالة عن الحلف الصهيو-أمريكي بالنيابة عنها.
أردوغان اليوم في أوهن حالاته السياسية وحزبه تشظى، وفقد زعاماته المؤسسة له والمؤثرة في سياساته من أمثال عبدالله جول وعلي بابا جان وأحمد داؤد أوغلو، ولم يعد حزب العدالة والتنمية اليوم يشكل أغلبية برلمانية كالسابق؛ بل ولم يجد من يتحالف معه من أحزاب المعارضة القوية، لهذا خضع للابتزاز السياسي، وأصبح معيار سياساته يخضع لمن يعزز خزينة الدولة بودائع أو استثمارات؛ كورقة يلعب بها ويعزز من رصيده السياسي المتهاوي. وفي مقابل ذلك، قدم أردوغان تنازلات جسيمة كانت من المحرمات في السابق مثل تخليه عن تنظيم الإخوان ومنع منابرهم الإعلامية من العمل بتركيا.
يمكن القول وبقراءة المشهد السياسي في كازاخستان اليوم وأذربيجان قبلها، إن الضوء الأخضر الغربي قد أُطلق لأردوغان لزعزعة استقرار الكبار: الصين وروسيا؛ كأولوية للغرب، بعد حتمية فشل الربيع في الوطن العربي وإفلاس الإخوان وبوار تجارتهم تدريجيًا واشتعال جبهة تيجراي بإثيوبيا وحركة التصحيح بالسودان والانتخابات المقررة في ليبيا، وقبلها هدم الرئيس قيس سعيّد للمخطط الانقلابي لحركة النهضة الإخوانية الذي كان يسعى لخطف الدولة ومقدراتها بتونس.
هرولة أردوغان اليوم لكسب رضا مصر ودولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وتنازله عن لغة الطاووس، تعني أن الرجل منفعي بالدرجة الأولى وليس براجاماتي، كما يحلو للبعض وصفه! فقد استسلم وخضع لمنطق الأمور ومجريات السياسة ومقتضياتها، وهذا ما يجعنا نقول إن أردوغان حمل حقائبه مكرهًا من الوطن العربي وبمكاسب تشبه الهزائم، إن لم تكن الهزائم بعينها، وسيحط رحاله زمنًا ليس بالقصير في آسيا الوسطى يناجي عرش أجداده خدمة للسيد الأمريكي.
قبل اللقاء.. من لا يقرأ التاريخ محكوم عليه بإعادة عثراته.
وبالشكر تدوم النعم.