الحلانيات كوريا موريا.. ذاكرة مكان (1- 3)

 

 

خالد بن سعد الشنفري

 

 رغم أن اسمها قد تغيَّر من جزر "كوريا موريا" إلى جزر الحلانيات منذ بداية السبعينيات من القرن الماضي، إلا أننا كُنا ولا زلنا لم نعتد عليه، ولا زال الاسم القديم كوريا موريا مستوطنًا في الذاكرة الجمعية وألسنتنا درجت عليه؛ وهي عبارة عن 5 جزر عُمانية صغيرة تقبع في بحر العرب، على بعد 40 كيلومترًا من نيابة الشويمية في ولاية شليم وجزر الحلانيات بمحافظة ظفار.

وتقدر مساحة هذه الجزر الإجمالية بحوالي 45 كيلومترًا مربعًا، أكبرها وتتوسطها جزيرة الحلانية وهي الوحيدة المأهولة بالسكان، ويوجد بها مياه عذبة وتقدر مساحتها بحوالي 25 كم، وهناك 4 جزر أخرى صغيرة تحيط بها اثنتان إلى الشرق واثنتان إلى الغرب هما جزيرة الحاسكية نسبة لقربها من نيابة حاسك التابعة لولاية سدح؛ إذ تبعد عنها 51 كم، ثم جزيرة القبلية لاتجاهها ناحية القبلة، وجزيرة جزرعوت أو جارودة وتسمى محليا أيضا جزيرة شناص، وجزيرة السودة وتلي الحلانية في الأهمية، وتعتبر ملجأ للطيور المهاجرة، إذ تلجأ إليها للبيض والتفقيس لذا اشتهرت بأغنى وأجود أنواع سماد الطيور في العالم (سماد الجوانو)، ويوجد بها الفسفور أيضًا الذي لم يستغل إلى الآن للأسف، علمًا بأن أحد المستثمرين الصينيين قد زار الجزيرة قديمًا بعد أن سمع عنها، محاولا الاستثمار فيها واستغلال هذا الفسفور.

إحدى هذه الجزر غير المأهولة بها شاطئ رملي جميل ناصع البياض، شاهدناه من طائرة الهليكوبتر التي أقلتنا إلى الجزيرة الأم على ارتفاع منخفض، وهذه الجزيرة تتمتع بأفضل المقومات لإقامة منتجع سياحي عليها. وقد أخبرنا أهلها بأنَّ بعض البواخر السياحية العابرة كانت تتوقف قبالتها لساعات للتصوير. وأهديت هذه الجزر من قبل السلطان سعيد بن سلطان إلى بريطانيا عام 1854م، بعد أن طلبت الأخيرة شراءها من عمان، وعرضت مبلغا مجزيا بمقاييس تلك المرحلة، نظرا لحاجتها الماسة إليها لتكون موقع ربط بين مستعمراتها (بومباي وعدن). وفي إطار من العلاقات الودية بين البلدين والتعاون القائم بينهما تم إهداؤها من السلطان دون مُقابل. وظلت هذه الجزر تحت التبعية البريطانية لحوالي 113 عامًا إلى أن أعادتها الملكة إليزابث إلى حضنها العماني عام 1967 في عهد السلطان سعيد بن تیمور، بعد خروج الأخيره من الهند وعدن.

وفي عام 1926 اتضح من إحصاء سكاني للجزيرة أن عدد سكانها كان 50 نسمة منهم 35 من الذكور و15 من الإناث. وكانت الجزر منذ 1854 تحت الإدارة البريطانية في بومباي حتى العام 1931، حين تم نقل مسؤوليتها إلى رئاسة عدن. وفي عام 1963 نقلت المسؤولية للمقيم السامي الإنجليزي في البحرين، حتى تمت إعادتها لعُمان في عام 1967م. ومن المفارقات أن اسم كوريا يطلق أيضًا على دولة آسيوية (شبه جزيرة) تقع في منطقة اسمها سابقاً إقليم "الهان" انقسمت بعد ذلك إلى دولتين هما كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية. لذا يتبادر السؤال المشروع وهو: هل مسمی جزر كوريا موريا السابق له علاقة بهذه التسمية؟

من ناحية أخرى يلاحظ أن كلمة الموريا لغويًا تعني البحر المضطرب، ومعروف اضطراب الموج حول هذه الجزر، وبالذات في فصل الخريف في ظفار؛ حيث يستحيل الاقتراب من أرض الجزيرة إلا بواسطة السفن الكبيرة، وهو لا يخلو أيضاً من مخاطر الارتطام بالصخور المرتفعة وسط البحر المحيط بها، وقد تعرضت عدة سفن للغرق في المنطقة، ولها قصص وحكايات معروفة. وتوجد في بعض هذه الجزر آثار وقبور لفترة ما قبل الإسلام، كما عُثر على كميات من الأسلحة القديمة لم تعد صالحة للاستخدام. وقد ذكر الرحالة ابن بطوطة في كتابه «بهجة النظار» أنهم في رحلة رجوعهم إلى كيرلا بالهند من ظفار قبل سبعمائة عام تقريباً من الآن، نزلوا بها فلم يجدوا فيها سوى شخص واحد لا يوجد لديه من متاع الدنيا سوى ثياب رثه وإبريق، ويبدو أنه متصوف. وقد عرضوا عليه أن يأتي معهم ليوصلوه إلى أي بقعة يشاء، إلا أنه اعتذر لهم وظل بها، وأطلق عليها اسمها الحالي (الحلانيات) بعد عصر النهضة المباركة، ويتناقل بعض أهلها أن الحلانيات هو اسمها الأقدم قبل كوريا موريا، كما تناقلوه عن أجدادهم، وهذا يقبله المنطق لأن اسم «كوريا موريا» شاذ في ظفار.

وفي أواخر العام 1978 تقريبا التحقتُ بالعمل بإدارة شؤون الموظفين بمكتب والي ظفار (سابقًا)، حينها كنت بالصف الأول ثانوي (العاشر حاليًا)، بعد أن حولت من الدراسة النظامية صباحًا إلى الفترة المسائية لحاجة البلد حينها لأي كوادر شابة للعمل، لمواكبة تنامى حركة البناء والتطور، وأُوفدتُ بعدها في دورة تدريب عملي إلى ديوان شؤون الموظفين (سابقا) في مسقط، للتدريب على كيفية تعبئة استمارة (آر دي 17) التي تم اعتمادها استمارة بيانات لكل موظفي الخدمة المدنية. وبعد استيفائنا لتعبئة هذه الاستمارة لكافة موظفي مكتب الوالي بصلالة والنيابات التابعة، أُرسلنا في مهمة لجزر الحلانيات لاستيفاء بيانات الموظفين هناك، وكان برفقتي في الرحلة المهمة اثنان من الإخوة من شرطة عمان السلطانية؛ هما: الرائد عامر قطن والنقيب علي المعشني أبو صادق. وكانت رحلتنا من قاعدة صلالة الجوية في تمام الساعة السادسة صباحا بواسطة طائرة مروحية تابعة لسلاح الجو السلطاني العماني. وهبطت بنا أولًا في نيابة حاسك لإنزال بعض المؤن هناك، ثم حلقت بنا جنوبًا فوق سطح بحر العرب إلى الجزيرة، وقد كان هذا ديدنُ طائرات سلاح الجو السلطاني حينها لتقديم خدماتها المدنية إلى المناطق البعيدة، وأهم هذه الخدمات ما كان يعرف بالطبيب الطائر.

هبطت المروحية على مقربة من المنطقة السكنية بجزيرة الحلانيات بالقرب من مكتب نائب الوالي، واستقبلنا النائب الشيخ عبدالعزيز الشحري عند باب الطائرة، فقد كانوا يعرفون بوصولنا عن طريق جهاز اللاسلكي (البرقية) الخاص بالمكتب، وهو وسيلة الاتصال الوحيدة بصلالة حينها، ويسكن الشيخ عبدالعزيز وعائلته بالدور الأرضي، وجُهز الدور الأول كمكتبٍ. وبعد واجب الضيافة بدأنا تعبئة الاستمارات وأخذ البصمات لحوالي ستين شخصًا هم كل الذكور البالغين من أبناء الجزيرة، وأغلبيتهم عُينوا في وظيفة حارس، ويمارسون جميعهم مهنة صيد الأسماك، وهي المهنة الوحيدة التي يمارسونها وتوارثوها عن أجدادهم. وقد وفرت لهم الدولة ثلاجة لتخزين الأسماك، وكانت شركة الأسماك العمانية تشتريها منهم؛ حيث تم إنشاء رصيف بحري صغير لرسو السفن الصغيرة.

وبعد إنجازنا لمهمتنا وتناول وجبة الغداء مما لذ وطاب وتنوع من الأسماك، خصوصا الصفيلح ذي الحجم الكبير قليل الوجود على شواطئ مرباط والمناطق الشرقية المجاورة لها، تم اصطحابنا في جولة بسيارة النائب، اللاندروفر الجديدة التي أُحضرت للجزيرة مؤخًرا بعد أن تقادمت الأولى وليس سواها. ومررنا بمنطقة الشريط الساحلي الذي يعد أكثر أراضي الجزيرة استواءً واتساعًا، وبه بيوت السكان والمسجد والمدرسة والعيادة ومولد كهربائي ومدرج صغير لطائرات سلاح الجو الصغيرة كالسكاي فان والديفندر البريطانية. الجو كان منعشًا مُشمسًا بدرجة حرارة معتدلة جدًا في سواحل ظفار وصلالة عموماً في موسم الصرب، إلا أنه في الجزيرة في منتهى الانتعاش، فقد كُنّا في مكتب النائب والهواء المنعش الذي يأتيك من النوافذ لا يتجاوز درجة حرارته 25 مئوية، مصدره النافذة وليس جهاز تكييف ماركة جنرال!

وللحديث بقية...