الحلم الطُوراني التوسعي.. كازاخستان أنموذجًا

 

علي بن مسعود المعشني

ali95312606@gmail.com

 

في عام 2005، ألقى الفيلسوف والمفكر الأمريكي صامويل هنتجتون محاضرة في أسطنبول بتركيا، تلخص رؤيته لتركيا المستقبل، بحضور جمع غفير من الأتراك يتقدمهم رموز حزب العدالة والتنمية ومؤسسيه رجب طيب أردوغان وعبدالله جول وعلي باباجان وأحمد داؤد أوغلو؛ حيث وضع هنتجتون لتركيا الغد ثلاثة سيناريوهات: 1) سيناريو الالتحاق بالاتحاد الأوروبي، 2) سيناريو الانكفاء التركي على نفسها والانهماك بشأنها الداخلي، 3) سيناريو استعادة تركيا لدورها التاريخي بالتعاون مع أمريكا.

بكل تأكيد لم تكن سيناريوهات هنتجتون بمعزل عن المُخطط الأمريكي الاستخباراتي للدور التركي القادم؛ إذ لم يقدم سوى طرح استخباراتي أمريكي مُتقدم بهوية عروض، ولكن بمفردات فلسفية أكاديمية تُنسب إليه. واستبعد هنتجتون السيناريو الأول بانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي بيسر وسهولة، وعلل ذلك بهوية الاتحاد المسيحية مُقابل تركيا المسلمة، وهو المُبرر غير الرسمي الشائع عن تلكؤ الأوربيين لقبول عضوية أوروبا لتركيا كعضو كامل العضوية في الاتحاد الأوروبي، مع الإبقاء على عضويتها في حلف شمال الأطلسي "ناتو". كما شكك هنتجتون في جدوى انكفاء تركيا على نفسها وانحسارها داخل جغرافيتها وقلل من فاعلية ذلك لمستقبل تركيا. فيما أطنب هنتجتون في فاعلية السيناريو الثالث وعدّدَ مبرراته ومفردات نجاحه؛ باستحضار تاريخ تركيا كإمبراطورية عثمانية وانتشار أقليات تركية في جغرافيات عديدة من العالم وخاصة في قارة آسيا.

انتهت محاضرة هنتجتون وأنطلقت مطامح الأتراك وعلى رأسهم رموز حزب العدالة والتنمية وفق تفاصيل ومفردات السيناريو الثالث. وكانت البداية بنظرية أحمد داؤد أوغلو "صفر مشاكل"، وتبعها بكتابه الشهير "العمق الاستراتيجي"؛ فتحقق مفعول المخدرات العقلية الفاعلة في الجوار التركي؛ جراء ذلك الكتاب، وتلك النظرية، وكان أكبر الضحايا لهما هم العرب أولًا، مع إحماء سياسي واضح لدى القوميات ذات الأصول التركية في الصين وروسيا على وجه التحديد، والذين استبشروا بعودة الإمبراطورية التركية مجددًا وطموح قادتها الجدد في توظيف المد التاريخي في هويتها القادمة.

في عام 2008، قدم الزعيم الليبي معمر القذافي للحكام العرب ملفًا استخباراتيًا تحليليًا عميقًا، مُحذرًا من الدور التركي الوظيفي القادم وخطره على الأمن القومي العربي؛ فكان مصيره  السخرية والإنكار والتهكم، بفعل التأثير الكبير للطرح التركي، والذي كان ألحن من تقرير القذافي حينه.

وحين اشتعل الربيع المشؤوم عام 2011، رجحت كفة تقرير القذافي بجلاء، لكن بعد فوات الأوان!!

تلى ذلك رصد تحركات وتدخلات تركية خطيرة في جغرافيات عديدة تضم قوميات ذات منشأ تركي، وبهذا تخلت تركيا فعليًا عن نظرية "صفر مشاكل" وتبين أن العمق الإستراتيجي المقصود لأوغلو هو عمق صراع لا تكامل.

آخر حلقات الصراع اليوم وأحدثها، هي ساحة جمهورية كازاخستان، والتي تمثل عمق الحضور التاريخي التركي في آسيا والاتحاد السوفييتي السابق؛ حيث يتكون الاتحاد السوفييتي في حقيقته ونواته الصلبة من الجمهوريات الأربع الفاعلة وهي: روسيا الاتحادية وروسيا البيضاء وأوكرانيا وكازاخستان.

لهذا يعمد الغرب اليوم إلى زعزعة الاستقرار الروسي عبر استهداف الاستقرار في الجمهوريات الثلاث الأخيرة لإقلاق روسيا الاتحادية، في تجلٍ واضح على أن الحرب الباردة في السابق لم تكن صراع نهجٍ وأفكارٍ؛ بل صراع وجود وغلبة.

كازاخستان تمثل عمقًا استراتيجيًا للأمن القومي الروسي، وتقطنها جالية روسية كبيرة منذ العهد السوفييتي، وتوجد بها قاعدة "بيغانور" والتي تمثل أكبر قاعدة لإطلاق الصواريخ الفضائية منذ العهد السوفييتي وحتى اليوم.

ومنذ انفراط عقد دول الاتحاد السوفييتي وتولي الرئيس نور سلطان نزارباييف لحكم بلاده كازاخستان، عانى الروس من مضايقات واضطهاد كبير بقصد تهجيرهم، بلغ درجة منعهم من استخدام لغتهم الروسية، وحين تخلى باييف عن السلطة عام 2019 بالاستقالة بعد أحداث ومطالبات شعبية، قام بتنصيب خليفته الضعيف قاسم جومارت توكاييف ليتمكن من الحكم به.

الأحداث المُفاجِئة الكبيرة اليوم في كازاخستان قد تبدو غامضة الأهداف والمصدر بالنسبة للمراقبين عن بُعد، لكن بالمعدل التراكمي للمُراقبين عن كثب؛ فهي لا تخرج عن إطار المخطط والصراع "الناتوي- التركي" لزعزعة استقرار روسيا الاتحادية؛ لاضعافها واختراقها وإعادة تشكيلها وفق نظرية فصل الرأس عن الجسد؛ لجعلها طوعًا لأهداف الغرب ومخططاته المستقبلية.

دخول القوات الخاصة الروسية سريعًا لجمهورية كازاخستان تحت مُسمى "قوات حفظ السلام" وبدعوة رسمية من حكومة الرئيس الكازاخي توكاييف، يؤشر لوجود مخطط روسي استباقي لتفتيت المخطط الغربي ونسفه، عبر التواجد الفعلي على الأرض، وتقوية نفوذ الرئيس الحالي توكاييف، وتقليم نفوذ الرئيس السابق نزار باييف، وتجفيفه تمامًا وبهذا تنضم كازاخستان إلى الجمهوريات المستقرة والمُلبِّية لأمن روسيا الاتحادية، ويغلق بابَ خطرٍ على الأمن القومي الروسي بعد السيطرة على قلاقل جورحيا وأوكرانيا وروسيا البيضاء.

قبل اللقاء.. ليس المهم قراءة الخبر؛ بل الأهم قراءة ما وراء الخبر وما بين السطور للعثور على الحقيقة.

وبالشكر تدوم النعم..