مطر.. ولكن!

 

يحيى الناعبي

بدأ عامنا الجديد بأمطار مُتفاوتة الغزارة في بعض المناطق. إن هطول المطر له عالمه الجمالي عند الناس، فهو بمثابة هدية ثمينة على الأرض ومن عليها وخصوصًا في المناطق التي يشحّ فيها الماء. حيث الجفاف الذي يُشقّق الأرض بقسوته، ثم ينعكس على وجوه النَّاس، كون البشر يمثلون الحلقة الأضعف على هذه البسيطة مهما علا صوتهم وتغطرست ذواتهم وأرواحهم على من حولهم.

سابقًا كنّا نتصور أنَّ تلك الوجوه القاسية القادمة من قعر البؤس على أنها خاصية يتميز بها الإنسان في هذه المناطق. لكن الحقيقة تكشّفت مع الوعي والسفر نحو الأراضي الخصبة المعشوشبة بصفحتها الخضراء وسمائها المُتشحة بالأشكال المختلفة من الغيوم، أن السلوك البشري هو انعكاس لهذا الجمال فيتحول ذلك الاكفهرار إلى وجوه لينة وطرية باسمة. خصوصا عندما يعمل الإنسان على تشذيب الإخضرار ليزداد حسنًا وبهاء.

ليست مُبالغة ولا تعبيرا فجاً في الرومانسية؛ بل تفسيرًا لما يعنيه اغتسال الأرض بالمطر بعد أن أنهكها الجفاف وأهلك أهلها اليباس. لذلك ينعكس هذا الاغتسال المطري عن الأرض والشجر والجبال إلى نفوس وصدور من يعيش عليها. أليست هناك مشقة لاجترار الكلمات عندما يفتقد المطر؟ بل قد يعتبرها الآخر مبالغة عندما نعزو فقدان المطر في حياتنا له أثر كبير على قضايانا الإنسانية المتعلقة بحياتنا اليومية، لأننا محرومين من الجمال الذي تهبه السماء. فما أن يهطل المطر حتى يهبّ الناس من سكونهم في المنازل يتبعون مسار الشعاب والأودية في مشهد تستشرف منه مدى التعطش للماء.

في المقابل، لم نستطع أن نغيّر من بعض العادات والسلوكيات التي تعدّ بحاجة إلى مُراجعتها سواء باتباع الجيد فيها والابتعاد عن السيئ منها. فليس القدر الذي يذهب بالإنسان إلى مصيره؛ بل سلوك الإنسان الذي ينادي القدر ليُحدد مصيره. من المزعج جدًا سماعه والمحزن بالطبع، عندما تتناقل الأخبار بعد كل نفة مطر أن هناك ضحايا التهور والاستهتار بأرواحهم وأرواح من يحبون. الذين يتلاعبون بمصائرهم ومصائر غيرهم، وبكل بساطة يأتي من يرجع ذلك إلى القدر ودنو الأجل!! أليس من الأحرى أن نشدّد على قضايا الاستهتار وأن نحارب هذه الفوضى التي تعتري نفوس البعض حين يرمون بأنفسهم إلى الهلاك. وهنا لا أقصد أن نغلظ القول في الضحايا، بل في أن نحارب الاستهتار الذي يقع فيه البعض بجهله. بالرغم من التوعية والتحذير المستمر إلا أنه يجب أن تشدد العقوبة على من يحاول اجتياز مجرى الأودية.

أيضًا، يجب على الناس أن يربطوا الأحداث ببعضها وأن يحللوها تحليلًا منطقيًا. طالما أننا نسمع ونقرأ كثيرا وبشكل مكثف أن التغييرات المناخية هي إحدى القضايا الرئيسية المعاصرة، وأن العالم منذر بازدياد الكوارث الطبيعية، من بينها الفيضانات الناتجة عن الأعاصير والأمطار الغزيرة. علينا أن نوسع دائرة تصورنا في المآل الذي تسببه هذه الأنواء بحيث نحمي أنفسنا وغيرنا من شرّ النتائج. فعلى سبيل المثال، منّا الكثير من غيّر سير جريان الأودية والشعاب وتسبب في الأذى للآخرين. قد يكون منسوب المياه مختلفًا وأكثر من السابق بسبب التغيّرات المناخية، لكن لا يعني ذلك أن نخلوا بأنفسنا من المسؤولية، فنحن من اعترض هذه الأودية وهذه الشعاب بالبنيان الذي أقمناه، دون التفكير في المضار التي ستلحق بنا. فالأمطار التي تشهدها المنطقة تقاس بنسبة ضئيلة مقارنة بتلك التي تنهمر وعلى مدار أيام في دول أخرى، مع الفارق في الكوارث التي تسببها. لا يعود ذلك إلى البنى التحتية والتوزيع العمراني الخاطئ فقط، بل أيضًا إلى جشع الإنسان واستهتاره دون مراعاة لعواقب ما سيحدث فيما لو أثقلت السماء الأرض بمدرارها.

لقد تطور وعي الإنسان وأصبحت مدركاته للأمور أكثر شمولية وتميزًا، ومن الخطأ أن نتملص من المسؤولية بحجة أننا مسيرين ومنفذين ومقادين. بل يجب أن نحكّم أذهاننا في بعض التصرفات والسلوكيات والأفعال. الكثير لم يتعلم بعد أن له قراره الفردي وهو من يتحكم في شؤون أمره، وأن سلطة الخيار أكثر من سلطة الفرض، بمعنى، حتى وإن حصل الفرد منّا على منحة الأرض، لا يعني ذلك أنه مجبر على إقامة البنيان عليها طالما يشعر بحسه ووعيه أنها ستشكّل خطرا عليه وعلى أسرته في المستقبل، يتجنب الفعل بدلاً عن أن يلقي اللوم على المؤسسة الرسمية.

ملخص القول، قراراتنا الفردية مهمة، وبالتالي فإنَّ حماية الفرد لنفسه هي حماية المجتمع ككل.