صالح البلوشي
كان أحد الأصدقاء يُرسل لي بين الفترة والأخرى على هاتفي النَّقال عبر تطبيق التراسل "واتسآب" بعض المقاطع المرئية لبعض الشيوخ من بعض المذاهب الإسلامية، ولم أكن أعلق على هذه المقاطع، لكني كسرت القاعدة في يوم ما وسألته عن الهدف من إرسال هذه المقاطع المرئية؟
أجاب صديقي: "حتى تعرف أنَّ القوم على باطل"! قلت له: وعلى فرض أني عرفت وتأكدت يقينًا أنهم على باطل فماذا بعد؟ يعني بالمحلي: وبعدين؟! فأجاب: حتى تُحذِّر الناس منهم، فقلت له: إن هناك اليوم في العالم آلاف الأديان والمذاهب والفلسفات المُختلفة، فهل على الإنسان أن يقوم بإقصائها جميعًا بزعم أنها على باطل وأنه بمفرده على الحق المُبين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه؟ وهل عليه أن يترك أعماله ويتفرغ لتحذير النَّاس من الأديان والمذاهب والفلسفات التي يعتقد أنها باطلة؟
إنَّ بعض الناس يتصورون أنه لا يوجد على وجه الأرض من هو على حقٍ إلا ما هم عليه فقط، غافلون أنهم ارتبطوا بالعقيدة التي يؤمنون بها بسبب أنهم وجدوا آباءهم عليها فقط، والمكان الذي ولدوا فيه، وأنهم لو ولدوا في بيئة دينية أخرى لكانوا على دين أو طائفة تلك البيئة، وأنهم لم يجتهدوا ولم يحاولوا حتى الاطلاع على الأديان والفلسفات الأخرى حتى من باب الفضول، وكأنَّ لسان حالهم يقول "نحن وُلدنا على الحق والحمد لله فلماذا نشغل أنفسنا بالاطلاع على عقائد وفلسفات الآخرين الباطلة"؛ بل إن كثيرًا منهم يخشى حتى من إمساك كتاب في النقد أو الفلسفة حتى لا يُؤثر ذلك على "إيمانه العميق"، ولبعض العلماء فتاوى في ذلك تعرف بـ"حرمة قراءة كتب الضلال".
وإذا رجعنا إلى المقاطع المرئية المنتشرة في بعض وسائل التواصل الاجتماعي فإنها لا تعبر عن تلك الأديان والمذاهب؛ وإنما أقرب إلى المواعظ؛ حيث يختار الخطيب بعض الروايات التي يرى أنها تؤثر في المستمعين دون التأكد من صحتها، وقد كان ذلك عمل الزهاد والقصاص في القرون الإسلامية الأولى، وكانوا يبررون هذا الفعل بأنهم ينطلقون من نية حسنة وهو الترغيب في الجنة والترهيب من النار وإرشاد الناس للتمسك بفضائل الأعمال وهدايتهم إلى الصراط المُستقيم.
الباحثون الحقيقيون يعرفون أن من بديهيات البحث، أن العقائد والأفكار تؤخذ من المصادر الأصلية وليس من خطب الجمعة أو منابر الوعظ والإرشاد، وعلى سبيل المثال، فإنَّ من يريد أن يعرف عقائد المُعتزلة فعليه الرجوع إلى كتب القاضي عبدالجبار المعتزلي مثل: "المغني في أبواب العدل والتوحيد"، وآراء كبار علمائهم مثل واصل بن عطاء وإبراهيم بن سيار النظام وابن الخياط المعتزلي وغيرهم، ومن يريد الاطلاع على الأشاعرة فعليه الرجوع إلى كتب علمائها الكبار أمثال "أبي الحسن الأشعري، وأبي حامد الغزالي، والباقلاني، وابن فورك، والفخر الرازي، وغيرهم" ومن المدونات المتأخرة "العقيدة الطحاوية" لأبي جعفر الطحاوي، و"جوهرة التوحيد" للبيجوري، و"أم البراهين" للإمام محمد بن يوسف السنوسي وغيرها، وكذلك من يريد الاطلاع على عقائد المذاهب أو الأديان الأخرى، وجميعها متوفرة ولا يتطلب منك اليوم سوى ضغطة زر على جهاز الحاسوب.
إن العالم اليوم لم يعد كالأمس الذي كان أتباع كل دين ومذهب يعيشون في منطقة جغرافية خاصة بهم، ولا يختلطون مع الآخرين، وصار العيش المشترك مبدأً عالميًا يؤمن به الجميع، ويعيشون تحت ظلاله وأصبح القانون المدني هو الذي يحكم الجميع، ولذلك فلا معنى لترويج ونشر خطابات الكراهية التي كانت نتائجها واضحة للجميع في العراق وسوريا وأفغانستان وبعض المناطق الأخرى.