د. محمد بن عوض المشيخي **
تمرُ على الأمم سنوات عجاف وأخرى سمان، تشهد الرخاء والازدهار في إطار إرادة إلهية مُقدرة؛ لا يعرفها الإنسان ولا يدرك ما تخبيه له الأقدار في قادم الأيام؛ فالدروس والعبر في هذه الدنيا تنطلق من قاعدة ما يعرف بمبدأ تداول الأزمنة والعصور؛ فلا ثبات على حالة واحدة طوال السنين والأعوام؛ بل بعد اليسر يأتي العسر وبالعكس.
فهذه الأيام يدبرها خالق هذا الكون ويداولها بين الناس لأسباب تُحجَب في كثير من الأحيان عن البشر، فلا دوام إلا لله وحده. والمجتمعات الواعية والمدركة للأزمات ومبرراتها وأسبابها يجب عليها في البداية أن تعترف بالأسباب والوقائع التي أدت إلى مثل تلك الأوضاع؛ وذلك بهدف تصحيح المسار وتوجيه البوصلة في الاتجاه الصحيح دون مزايدات أو نفاق. فأسباب الكوارث الصحية والأزمات الاقتصادية تحتاج إلى قيادات شجاعة وعقول نيرة ونظرة حكيمة من صناع القرار في أي بلد في العالم. وقبل ذلك كله نحتاج إلى مُخْلِصين في التخطيط الاستراتييجي للمشاريع وأمناء في التنفيذ لتحقيق مستقبل الوطن والمواطن الذي نُريد، فبدون الاعتراف بالأخطاء التي أوصلتنا إلى تلك التحديات، لا يمكن لنا تحقيق الطموحات والسيطرة على المعوقات التي قد يكون مصدرها من داخل الوطن أو الخارج.
نعم، لقد رحلت سنة 2021 بما حملته لنا من أحزان ومُعاناة، وقليل من الأفراح والوئام، وطوت أوراقها بلا رجعة، لنستقبل عام 2022، وكلنا أمل أن يكون العام الجديد أفضل من السنين الماضية في كل نواحي الحياة. ولا شك أن 2021 شهدت أحداثًا يصعب على ذاكرتنا نسيانها؛ إذ لن تطوى بسهولة من ذاكرة الزمن دون أن تترك آثارًا على المدى البعيد، قد يصل مداها إلى الأجيال المُقبلة. لقد كانت السنة الماضية مليئة بالأحداث الصعبة والكوارث الإنسانية المفجعة التي خلفتها جائحة كورونا في بلدنا العزيز، فهناك الكثير من الناس الذين فقدوا أعزاء وأحباب طوال شهور تلك السنة الكبيسة، خاصة في شهور الصيف التي اجتاحت فيها النسخ المتحورة الجديدة من كورنا (كوفيد-19) مختلف محافظات السلطنة، حاصدة المئات من الأنفس الغالية علينا جميعًا، ولا نملك في هذا الموقف إلا أن نترحم على أرواحهم الطاهرة وندعو الله عز وجل أن يعوضهم الفردوس الأعلى، ويتغمدهم بواسع رحمته ويسكنهم فسيح جناته.
كما إن ارتفاع فواتير الكهرباء بشكل جنوني وغير منطقي، كان العلامة الفارقة، إلى جانب الضرائب التي طبقت لأول مرة في السلطنة كضريبة القيمة المضافة وغيرها من الضرائب التي انهالت على جيب المواطن البسيط، من كل حدب وصوب في فترة زمنية قصيرة في مجتمع يعتمد كليًا على الحكومة في دخله وقوت يومه، من خلال ما يعرف بالاقتصاد الريعي الذي أتى في الأساس من خلال الطفرة النفطية التي شهدتها دول الخليج في العقود الخمس الماضية، وذلك في ظل غياب كامل من المخططين لانتهاج سياسة ناجحة لتنويع مصادر الدخل والاعتماد مبكرًا على ما يعرف بالثالوث الاقتصادي الآمن؛ والمتمثل في تطوير قطاعات الإنتاج: الصناعة والسياحة والزراعة، كبديل للنفط ومشتقاته. كما إن محاولتنا الحالية في ما يعرف بالاقتصاد المعرفي والرقمي في مراحلها الأولى؛ وقد تحتاج منا لسنوات؛ بل وربما عقود قادمة، مع نجاح تطبيق الرؤية المستقبلية "عمان 2040" والتي نضع عليها آمالًا كبيرة لتحقيق التنمية الشاملة والرفاه للإنسان العماني. ويجب الاعتراف أن بعض القرارات المتعلقة بفرض الضرائب تحتاج إلى دراسة متعمقة، وذلك لتأثيرها المباشر على أفراد المجتمع؛ بل وحتى على الاقتصاد الوطني نفسه؛ إذ بالفعل أغلَقت بعض الشركات أبوابها بسبب ارتفاع تكلفة تعريفة الكهرباء في تلك المصانع الناشئة، وقد اشتعلت منصات الطائر الأزرق "تويتر" طوال أشهر الصيف الحار بتغريدات المواطنين الداعين هيئة الخدمات العامة لأن تقوم بواجبها تجاه شركات الكهرباء في السلطنة، مما ترتب على ذلك تعديل تعرفة الكهرباء.
ووسط قضايا ساخنة فرضت نفسها من الخارج، مثل جائحة كورونا والازمة الأقتصادية الدولية وانخفاض أسعار النفط حتى منتصف العام الماضي، تجلت في الأفق أخبار سارة حملت البسمة لكل عُماني على هذه الأرض الطيبة قبل أن تلملم 2021 أوراقها للرحيل عن عالمنا، ألا وهي نجاح خطة التوازن المالي التي أشرف عليها ووضع محتوياتها جلالة السلطان هيثم بن طارق- حفظه الله-. وتمثل ذلك النجاح في خفض العجز السنوي في الموازنة العامة للدولة الذي بلغ قبل خطة التوازن المالي 4.8 مليار ريال عماني إلى 1.2 مليار ريال عماني في الوقت الحالي، وكذلك ارتفاع الصادرات العمانية بنسبة تجاوزت 42%، وارتفاع الناتج المحلي الإجمالي بأكثر من 24 مليار ريال عماني بزيادة قدرها حوالي 14% عن العام 2020، والأهم من ذلك كله ارتفاع التصنيف الائتماني للسلطنة إلى إيجابي- مستقر، فضلا عن ارتفاع احتياطات البنك المركزي من العملة الأجنبية إلى 18 مليار دولار بنهاية 2021.
كما يجب أن نعترف جميعًا بأزمة الباحثين عن عمل وأنها ما زالت تتصدر المشهد الوطني وتاني في المرتبة الأولى من حيث الأهمية بين هذه التحديات مجتمعة لمجتمعنا، فهذه المعضلة التي لم نجد لها حلولًا منطقية وواقعية طوال السنوات الماضية، غدت الجرح النازف في جسد الوطن، فقد كشفت أرقام وزارة العمل المنشورة بنهاية السنة المنصرمة 2021 عن استيعاب أكثر من 40 ألفًا و500 باحث عن عمل في القطاعين الحكومي والخاص، لكن على الرغم من ذلك يتصدر يوميًا وسم "باحثون_عن_عمل_يستغيثون" منصات وسائل التواصل الاجتماعي، في أجواء حزينة ومؤلمة من ضياع أجمل سنوات العمر بعيدًا عن إيجاد وظيفة تكفُل مصدر رزق لهؤلاء الشباب الذين طال ببعضهم الانتظار لأكثر من 10 سنوات؛ في بلد تُقدّر فيه العمالة الوافدة بمئات الآلاف. وإذا تحدثنا بلغة الأرقام، فهناك أكثر من 24500 باحث عن عمل في قائمة الانتظار من الباحثين الذين بلغ عددهم 65 ألفًا بنهاية 2020، يضاف إلى ذلك أكثر من 28 ألف خريج من مؤسسات التعليم العالي كل عام، حسب المتوسط السنوي للمخرجات الوطنية كما جاء في الأرقام المنشورة من وزارة التعليم العالي لعام 2018. وإذا أُضيف المستجدون لعام 2021 سيبلغ عدد الباحثين عن عمل حوالي 53 ألف باحث في الوقت الحالي؛ يضاف إلى ذلك الذين تخرجوا من الدبلوم العام (2021)، ولم تستوعبهم الجامعات.
يبدو لي أن انفراد جهة حكومية واحدة بملف الباحثين عن عمل لم يحقق آمال وطموحات المجتمع العماني حتى في سنوات الرخاء الاقتصادي قبل عام 2011؛ إذ لم نرَ سياسات أو منهجية واضحة المعالم لحلحلة هذا الملف الوطني الصعب. وعليه حان الوقت لإشراك أطراف أخرى في هذه القضية الوطنية التي هي أكبر من الجميع، كما ندعو من هذا المنبر إلى التعجيل بالتوظيف المباشر للذين تجاوزت أعمارهم 40 سنة من حاملي الشهادات الجامعية والدبلوم العالي، وكذلك الذين تجاوزا 30 سنة من حملة الدبلوم العام؛ إذ إن الأولوية يجب أن تكون لهم.
** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري