اللغة العربية والعولمة

 

بدر بن خميس الظفري

 @waladjameel

يُعَرِّفُ البعضُ العولمة بأنها نظام عالمي يقوم على العقل الإلكتروني والثورة المعلوماتية القائمة على المعلومات والإبداع التقني غير المحدود، دون اعتبار للأنظمة والحضارات والثقافات والقيم والحدود الجغرافية والسياسية القائمة في العالم. ويرى آخرون أن العولمة ما هي إلا محاولة للهيمنة، وذلك بنشر منهج واحد فقط في الاقتصاد والثقافة والسياسة، وفرضه على العالم كله، وهو المنهج الغربي الأمريكي.

وحيث إن اللغة العربية هي جزء من هويتنا الثقافية، وبمناسبة اليوم العالمي للغة العربية الذي يصادف الثامن عشر من ديسمبر ويحمل هذا العام شعار (اللغة العربية والتواصل الحضاري)، سنحاول أن نستعرض في هذا المقال أثر العولمة على اللغة العربية إيجابا وسلبا.

إنّ تيار العولمة يؤثر على لغات العالم جميعها، وبحسب قوة الدول والشعوب التي تنتمي إلى تلك اللغة، ومدى مقاومتها لتيار العولمة الجارف، ومستوى التنمية الشامل فيها في جميع مناحي الحياة من اقتصاد وسياسة وأدب وإعلام، بحسب هذه العوامل كلها، يتحدد مدى تأثير العولمة على لغة ما، وما إذا كانت هذه اللغة ستحافظ على شكلها ومفرداتها وقواعدها من الانحراف، وربما من الموت والاندثار.

وبالنسبة للغة العربية فلها خصوصية تنفرد بها عن غيرها من اللغات، فهي إلى جانب كونها لغة سامية قديمة، يحوي وعاؤها آخر الأديان السماوية نزولا وهو الإسلام، ومعجزته الخالدة القرآن الكريم، وبذلك تكتسب اللغة العربية صفة العالمية، ذلك أنك لا تكاد تجد دولة من دول العالم تخلو من وجود مسلمين فيها، بشتى لغاتهم وقومياتهم وأعراقهم، وهؤلاء بطبيعة الحال ملزمون بتعلم اللغة العربية والحفاظ عليها.

وقد استفادت اللغة العربية من العولمة في جانبها التكنولوجي الضخم الذي أحدث ثورة كبيرة في مجال الاتصال، وبالتالي التواصل بين حضارات العالم المتنوعة، فإن مستوى الانتشار لهذه اللغة قد اتسع ليشمل أجزاء أكثر من العالم بعد اختراع الشبكة المعلوماتية (الإنترنت)، وما تبعها من اختراعٍ للتطبيقات الذكية الكثيرة، مما أدى إلى سهولة الحصول على المعرفة. وفي هذا السياق لا ننسى جهود العالم العربي الجزائري البروفيسور (بشير حليمي)، الذي اخترع آلية لإدخال اللغة العربية إلى الحواسيب، ليتمكن الملايين من العرب حول العالم من استخدام لغتهم في الحاسوب، وتتمكن شعوب العالم الأخرى من التعرف على هذه اللغة الجميلة.

كما استفادت اللغة العربية من الترجمة الآلية في التعريف بها والتعرف عليها، من خلال سهولة ترجمة الكلمات والعبارات من لغات متعددة إلى اللغة العربية، بل وصل الآن من دقة هذه الآليات أن دقتها أصبحت عالية حتى فيما يتعلق بالترجمة على مستوى النصوص.

وأيضاً لا يمكننا إغفال تأثر اللغة العربية بالدراسات اللسانية الحديثة، وبالنظريات العالمية المتجددة في مجال اللغويات، وذلك من خلال وجود مواقع إلكترونية متخصصة لنشر المقالات العلمية والبحثية، وكل ما هو جديد في مجال الدراسات اللغوية والأدبية، فضلاً عن إثراء اللغة العربية عبر هذه الوسائط السريعة بإنتاج الأدباء والكتاب والشعراء والمفكرين، بل وحتى التواصل المباشر الشخصي مع هؤلاء العلماء سواء عبر توظيف البريد الإلكتروني أم الاتصال المرئي المباشر أم غيرها من الوسائل الحديثة والسريعة.

ومهما كان حجم المعرفة التي استفاد منها الآخرون أو أفاد بها أهلها عن اللغة العربية، فإنه يعد شيئا جيدا وإيجابيا يُحسب للعولمة وآلياتها.

وكما استفادت اللغة العربية من العولمة فقد تضررت منها أيضًا، فقد دأبت بعض الحملات الاستعماريّة القديمة على استهداف ممنهجٍ إلى اغتيال العربية الفصحى بالدّعوة إلى استعمال العامية؛ زعمًا أنّها السّبيل إلى مجاراة ركب الحضارة والسرعة، وبهذه النظرة حُيدت العربية الفصحى واستبدلت العامية بها، وأشيع أنَّ الفصحى صعبة، وتعلمَ قواعدها يستهلك وقتاً وجهداً لا طائل منه، وأنها لغة عفا عليها الزمن ولا بد من تجديدها، وأضحت مجالا واسعًا للتندر وصناعة النكتة، وأمسى كل من يتحدث بالعربية الفصحى ينظر إليه أنه شاذ عن المجتمع، وأصبح أضحوكة متخلفا غير متحضر.

وقد رأينا جميعاً كيف أن بعض المسرحيات أسهمت في نشر هذه النظرة الدونية للفصحى، فهذا الممثل المصري الكبير (عادل إمام) في مسرحية (الواد سيد الشغال) يخصص من المسرحية ما يُقارب الدقيقتين ونصف الدقيقة في حديثٍ بالفصحى فيه من الاستهزاء ما لا يخفى على أحد، فعندما قال عاقد القِران: "اعطوني منديلا"! رد (عادل إمام) قائلاً: "إنه يريد منديلا. ألا يوجد منديل؟ إذن فلنذهب وراءهم إلى يثرب جميعًا"، فينفجر الجميع مُقهقهين بمن فيهم الممثلون، ولا أظن أنَّ الممثل القدير كان يقصد الاستهزاء بقصة قريش بقدر ما كان يستعمل العربية الفصحى – بقصدٍ أو بغيرِ قصد- أداة لإضحاك من حوله، ثم يواصل كلامه قائلاً: "خسئت. شلت يداك. ثكلتك بنت عمة أم اللي جابت أمك"، وهذا التعبير الأخير هو تحريف لتعبير مشهورٍ عند العرب وهو (ثكلتك أمّك)، والثكل هو الفقد، وهي كلمة تستعمل ولا يُراد بها حقيقتها، ظاهرها الدعاء وقد ترد مقام الزجر، أو التعجب من الغفلة عن أمر ما، وفي رواية عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم: "ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكبُّ الناسَ في النار على وجوههم، أو على مناخرهم، إلا حصائدُ ألسنتهم"، والأمثلةُ من المسرحيات والمسلسلات والمواد الإعلامية على ذلك كثيرة.

وبما أن العولمة في تعريفها هي محاولة الهيمنة، فذلك يشمل أيضا عولمة لغة، أي العمل على أن تكون مهيمنة على لغات العالم، وهذه اللغة هي اللغة الإنجليزية. وحيث إنَّ التكنولوجيا هي أداة العولمة الأقوى، فقد حرص أصحابها على تصدير تقنياتهم باللغة الإنجليزية، فأصبحت الحواسيب والإنترنت ولغة البرمجة توظف اللغة الإنجليزية في المصطلحات، وهنا واجهت اللغة العربية كما واجه غيرُها من اللغات صعوبة في التعامل مع هذه المصطلحات، من حيثُ إيجادُ المكافئ اللغوي لها أو تعريبها.

 ونتيجة للعجز عن استيعاب وتعريب المتجدد من مصطلحات أدبيّة وعلميّة وثقافيّة، وأسماء المنتجات والماركات الصناعيّة والحرفيّة في الميادين كافة، فإنّ ذلك يؤدّي بلا شكّ إلى شيوع المصطلحات غير العربيّة وسيادتها، وتأثيرها كثيرا على المناهج التّربويّة والتدريسيّة وصولًا إلى تداولها بين المثقّفين والأدباء والعلماء حتّى عامّة المواطنين، ما يهدّد مكانة اللّغة العربيّة.

 وأوضحُ مثالٍ على عولمة اللغة الإنجليزية وهيمنتها هو ما يحدث في الجامعات العربية من تدريسٍ لأكثرِ المواد العلمية باللغة الإنجليزية، لغةَ وَسَطٍ ولغةَ محتوى، بل لا يُسمح للدارس بالبدء بدراسته أو الحصول على شهادته إلا بعدما يجتاز امتحانات تَافِّلْ(TOEFL) أو آيِلتْس(IELTS)، وإن لم يفعل فلزاما عليه الدخول في نظام تأسيسي يَدْرسُ فيه اللغة الإنجليزية حتى يصل إلى الدرجة المطلوبة، فضلا عن أن أكثر لغة تستعمل في المؤتمرات والمنتديات والملتقيات هي الإنجليزية، وليس أدل على سيطرة هذه اللغة من أن الجوائز العالمية مثل جائزة نوبِل(Nobel) وبُوكَرْ(Booker) في الآداب لا تمنح إلا إذا كان العملُ قد كتب أصلا باللغة الإنجليزية أو أن يترجم إلى الإنجليزية. وفي هذا السياق نضم صوتنا إلى صوت الكثيرين في وجوب تفعيل وتنشيط حركة الترجمة من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية، لتكون لغة المحتوى التعليمي ولغة التواصل الدراسي في المؤسسات التعليمية الجامعية والدراسات العليا، حتى نتصدى لعولمة اللغة الإنجليزية، وحتى نحافظ على هويتنا الثقافية العربية.

تعليق عبر الفيس بوك