عيسى الغساني
انتقلت أوروبا من العصور الوسطى وظلماتها الحالكة مع بدايات القرن السابع عشر الميلادي إلى أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، وكان المحرك والقوة الدافعة لعصر العقل أو التنوير هو أفكار مجموعة من المفكرين منهم دينيس ديدرو، ورينيه ديكارت، وجان جاك روسو، وفولتير، وجون لوك.
وتأسست جُل النظريات سواء في العلوم الاجتماعية أو الاقتصادية أو العلمية مثل الفلك والكيميياء والفيزياء وغيرها على المنهج العلمي، وكان الاختلال الاجتماعي والظلم الاجتماعي وكرامة الإنسان واحترامه إحدى ركائز عصر العقل. وأحدث عصر العقل تغييرات اجتماعية وسياسية واقتصادية دفعت أوروبا إلى مركز الصدارة في مختلف العلوم وزامن ذلك نمو وتطور اقتصادي ورفاه مادي منح أوروبا القدرة الاقتصادية لتسيير والسيطرة خلال القرن التاسع عشر والقرن العشرين.
لكن قوة أوروبا الدافعة والتي جوهرها قيم الحرية والعدالة والمساواة لكل البشر والتي سادت أوروبا لردح من الزمن منذ الثورة الفرنسية والتي عمادها العدالة والحرية والمساواة لكل البشر، شهدت تراجعا بيّنًا، منذ بدء الحرب العالمية الثانية 1939 ـ 1945، وتجلى تنامي أفكار اليمين المتطرف ونجاحها في إيقاد الحرب العالمية الثانية، إلّا أن هزيمة محور التطرف الفكري والعنصري للحرب أخمد الفكر اليميني المتطرف لبرهة. ومع نهاية الألفية الثانية عاد اليمين المتطرف ليس إلى الواجهة الثقافية والسياسية فقط بل واصل انتشاره الواسع إلى الأحزاب والقادة ودعاة اليمين مندفعاً إلى مراكز القيادة والصدارة؛ كل ذلك يعطي مؤشرًا على ما يلي:
أولا: القوة الجامعة للمجتمع والدولة في أوروبا انتقلت من الوسط إلى اليمين، مما يعني نشوء تنافر وصراع فكري واجتماعي وسياسي واقتصادي بين مُعتنقي فكر الاعتدال واحترام حقوق الإنسان وبين أنصار اللون الواحد والجنس الواحد وماعداهم يجب إقصاؤه أو تهميشه.
ثانيًا: انحسار تجربة الاتحاد الأوروبي، إذ كما يذهب جانب أوروبي، أن الاتحاد الأوروبي مشروع ثقافي بقاطرة اقتصادية، ومع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بعد تنامي المد الشعوبي بين دول الاتحاد الأوروبي مؤشر على عجز قوة أوروبا الناعمة عن خلق توافق فكري وليس بجديد أن شعوباً أخرى مثل إيطاليا وفرنسا ينظرون إلى خروج بريطانيا بعين الاعتبار والتقدير. ويتزامن تراجع الاقتصاد الأوروبي المعرفي مع فكر الخروج من الاتحاد الأوروبي وعنصرة القوانين واستخدام القوة بمعزل عن سياق الإجماع الأوروبي.
ثالثًا: حق المعرفة؛ والذي كان أحد مفاخر أوروبا، وقوامه أن الإنسان يجب احترام إنسانيته وعقله ومن الضروري أن تقدم الحقائق والمعرفة دون تحفظ أو إخلال. وإذ كان حق المعرفة نظم باتفاقيات منها اتفاقية حقوق الإنسان الأوروبية، إلا أن أحداث جائحة كرورنا 19، شهدت تعتيما وتضاربا وتناقضا، أخل بحق المعرفة إخلالا جسيما، وغيب الحقيقة بشأن الجائحة وصدرها وحقيقتها وعلاجها تغييبا جزئيا وفي أحيان أخرى كليا، ونتيجة لذلك كانت المظاهرات في مراكز التنوير لندن وباريس واضحة وجلية ومعها يظهر التراجع أو النكوص عن التنوير جليا، وأيا كان السبب في التعتيم فإنَّ رحلة مغادرة عصر التنوير ربما تكون في منتصفها أو اقتربت من نهايتها.