إعلاء قيم العمل

حاتم الطائي

◄ قيم العمل ينبغي أن تكون متأصلة في روح كل إنسان حتى نضمن الارتقاء والتقدم

◄ الرأسمالية تحث على العمل من أجل إعمار الأرض وتحقيق المكاسب الاقتصادية

◄ المعتقد الديني يحفز المرء على العمل.. ونواميس الكون في خدمة الإنسان

أسئلة وجُودية عدة تفرضها وقائع الأيام وتحثنا الحياة على طرحها بشكل مُستمر؛ بل أحيانًا نجد أنفسنا في مهب رياحها دون إجابات واضحة تشفي الصدور الحائرة في هذا العالم المتلاطمة أحداثه، المتذبذبة أخلاقه، المندثرة قيمه الحقيقية؛ فبدلًا من ذلك قفزت على السطح قيمٌ مادية وسلوكيات سلبية اعتبرها البعض- خطأً- "سُنة الله في الكون" وأنها أخلاقيات السوق وتبعات الحداثة بشتى صنوفها الفكرية والفنية والاجتماعية والاقتصادية.. غير أنَّ المُتبحّر في أعماق الأخلاق بمنظورها القيَمي الحقيقي، يجد أنَّها ماثلة أمامنا لكننا لا نراها، وإذا رأيناها نؤولها بتفسيرات خاطئة غير مُتزنة، وبعيدةٍ كل البُعد عن أهدافها السامية.

الباحثون في الأخلاق كُثُر، وينتمون لخلفيات ثقافية وإثنية متنوعة، سبروا أغوار هذه الأخلاق بحثًا عن القيم الحقيقية التي يجب أن يتحلى بها الإنسان، أيٌّ إنسان، لكي يقوم برسالته التي من أجلها جاء إلى هذا الكون الفسيح. والأخلاق لا ترتبط بدينٍ ولا عقيدة، لكن هاتين الأخيرتين من عوامل تعزيز الأخلاق وتنمية القيم في النفس البشرية، شريطة أن نُفسرها على النحو الذي يتماشى مع المفهوم العام والطبيعي لرسالة الإنسان على الأرض.

واحدٌ من الذين سعوا إلى بناء صيغة منطقية وعقلانية وواقعية لقضية الأخلاق والعمل، هو الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، الذي اشتهر بمؤّلَفه ذائع الصيت "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية" الصادر في عام 1905، أي قبل ما يزيد عن 116 سنة؛ أكثر من قرن من الزمان!! ماكس فيبر ربط بين أهمية الأخلاق ونجاح الرأسمالية. والرأسمالية بالنسبة له تعني الحداثة، والحداثة في مفهومها البسيط التي تشير إلى الانعتاق من الأفكار التقليدية والتحول نحو أفكار ومُمارسات حديثة تُعلي من قيمة العقل البشري وترفع عنه أي تأثيرات تسببت فيها ظروف الحياة في العصور القديمة. ونظرًا لهذا المعنى، فإنَّ الرأسمالية عند فيبر تعكس مجموعة القيم المرتبطة بالثقافة الحداثية، ولذلك فإنَّ مفهوم "روح الرأسمالية" هو نفسه الأخلاق الرأسمالية، أي الأخلاق الحديثة، وليس بالضرورة الأخلاق المُرتبطة بالفكر الرأسمالي من الناحية الاقتصادية، خاصة وأن فيبر لم يكن عالم اقتصاد أو خبيرًا ماليًا؛ بل فيلسوفًا وعالِمًا في الاجتماع.

والأخلاق الرأسمالية تُشير إلى القيم التي يجب على الفرد أن يتحلى بها في حياته العملية، من حيث الانضباط الذاتي الشخصي، القائم على الاعتقاد بأنَّ العمل مُقدس، وهو روح وجوهر هذه الحياة، وأن مهمتنا في هذه الحياة العمل من أجل البناء والتعمير، وهذا لا يمنع من تحقيق الأرباح، لكن لا يجب أن يكون الهدف الوحيد هو تحقيق عوائد مالية وحسب، وكأنَّ الإنسان يعمل ويكد من أجل المال، فهذا من منظور قيمي تطبيق عملي للجشع والطمع في أسوأ صوره وأحواله، ولذلك لا يجب أن ينشأ أي سبب يمنع الإنسان عن أداء عمله والالتزام به، والإخلاص فيه وإجادته بكل ما أوتي من طاقات، مع نبذ الكسل والخمول والتواكل.

هذه الرؤية السامية النبيلة لدور ورسالة الإنسان في الأرض، يسميها ماكس فيبر "الأخلاقيات المهنية"، والتي نرى أنها تقود إلى تميز الفرد في المجتمع، فهذه الأخلاقيات تتعارض مع خُلق إنساني مرفوض وهو الجشع- كما ذكرتُ آنفًا- وفي المقابل فإنَّ التميز في العمل من أجل الترقي وجني المزيد من المال، لا يعني الجشع؛ لأنَّ الإنسان المهني المُتميز يكسب أمواله ويضاعفها بفضل كفاءته في العمل وإصراره على إنجاز المهام المطلوبة منه بكل نجاح، وليس جشعه! وهذه النظرية أيضًا تحث الإنسان الفرد على السعي في الحياة بالطرق التي أتاحها الله له لكي يتحصل على المزيد من الأموال، وأن يُعمّر في الأرض وأن يكون خليفته في هذه الدنيا، وهذا يتماشى في جزء منه مع الفكرة الإسلامية للكون، وهي أنَّ آدم خلقه الله لكي يعمّرها ويكون خليفة للرب في هذا الكون الأرضي، وأن يواصل العمل والسعي دون توقف، ما دام في صدره نفس، وما دام هو قادرًا على العطاء والعمل.

وهذا الانضباط الذاتي النابع من أعماق الضمير يقود المرء نحو الخير دائمًا، مرتكزًا على المنهج العقلاني في كل جوانب الحياة، وهو ما يُمثل كذلك انعتاقًا من قيود منظومة الأخلاق التقليدية، التي تربط الأديان بالقيم، وليس العكس؛ حيث إنَّ القيم الآدمية التي غرسها الله في نفوسنا هي التي ترشدنا نحو الدين، ومن ثم يكون هذا الدين- أي المعتقد- حافزًا إضافيًا من أجل العمل، وهذا هو "روح الرأسمالية" التي يتحدث عنها فيبر في كتابه الأشهر. فالرأسمالية ليست فقط المفهوم السطحي لدى الكثيرين بأنها "الشر المُطلق" أو أنها تستنزف الإنسان لصالح المادة، ولا هي أيضًا إعلاء لقيم تتعارض مع نواميس الكون.

إنَّ العلاقة بين المُعتقد والعمل متلازمة وأصيلة، والدعوة للفصل بينهما بحيث يجور المعتقد على أخلاق العمل، غير صحيحة، فالأديان كلها تدعو للعمل الذي يُفضي إلى البناء والتعمير، وفي خضم هذا العمل يُمكن للمرء أن يُمارس معتقداته الدينية كما يشاء، لا العكس، كأن يكرس الإنسان حياته من أجل المُعتقد دون عمل حقيقي يترك من خلاله بصمة نافعة للبشرية والإنسانية، وهذه قضية أخلاقية نصَّ عليها القرآن الكريم صراحة حين قال المولى عزَّ وجلَّ "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون"، أي أنَّ كل عمل يقوم به المرء فالله ورسوله والناس جميعًا شهداء عليه، ومن عظمة القرآن الكريم أنه لم يقل "اعبدوا" أو "صلوا" أو أقيموا الفرائض الدينية؛ بل قال اعملوا، وهو فعل أمر، وحثٌ رباني على العمل؛ لأن العمل هو جوهر هذه الدنيا. حتى عندما قال الله "إني جاعل في الأرض خليفة"، يتبين أنَّ دور هذا الخليفة في الأرض هو الإعمار والبناء، من خلال العمل.

وختامًا.. الدعوة للعمل وفق الأخلاق القائمة على تقدير الواجبات والمسؤوليات، دعوة قيمية في أساسها، نبعُها إنساني بحت، وفلسفتها إعمار الأرض والاستفادة من المُعطيات الإلهية لنا، فالعمل مُقدّس، والانضباط والأمانة والصدق والتفاني كلها صفات ضرورية ولا غنى عنها يجب أن يتحلى بها كل إنسان.

فهل سنلتزم بأخلاق العمل ونُعلي من قيمته؟ هذا سؤال وُجودي لكل إنسان!