رحيلٌ مهيب لفارسٍ من عموريّة

 

مسعود الحمداني

samaawt2004@live.com

 

إلى روح الفقيد الشيخ محمد بن سيف العموري- رحمه الله- الذي رحل إلى بارئه الأسبوع الماضي..

(1)

كنسرٍ يصطاد فرائسه يأتي الموتُ مُباغتا، يخرج من بين مزارع الخيزران، مجتازا نهر الحياة، ومعتصرا أضلع الفاجعة، يأتي دون موعد، وينتهك عزلة أجسادنا، ويتوغل في أرواحنا، ويدك حصون وحدتنا، ليسلبنا الحياة، ويُغلق على أرواحنا أبواب العدم، هكذا يفعل وهكذا يعاود الفعل، يأخذ من بين أيدينا أجمل الحكايات، ويرمي بذاكرتنا المُهترئة وراء عشرات الأعوام التي عشناها.

(2)

هكذا فعل في زيارته الأخيرة، حين أمسك بمخالبه روحاً عاصرت الكثير، وروَت الكثير، ووقفت في خندق واحد مع العطاء، وأشارت بعصاها نحو تاريخٍ من الشهادات على الزمن، وأثارت بعباراتها أنين الفؤاد، هناك حيث أناخ الفقيد الشيخ محمد بن سيف العموري راحلته الأخيرة، وترجّل عن صهوة الحياة، تاركاً عبثها، وحكاياتها الفارغة، وسفنها العابرة، رحل الشيخ بصمت، دون أن يُشير إلى مكانه الأخير، وهو الذي أعطى، وأسدى، وقال، وفعل، ووقف صامداً كجبل في وجه زمن لم يعد يعترف بالفرسان، ولم يعد يكرر الكبار.

(3)

رحل الشيخ الجليل- التسعينيّ- وفي يده قبضة من عموريّة، التي طالما حَنّ لها عبر التاريخ، وقرأ عنها دون أن يعيش فيها، وحكى عنها بإعجاب رجل مُعلّق قلبه بدهرٍ عبر، وزمنٍ اندثر، لعل في ذلك عزاء لنفسه عن وقت اختلط فيه الحابل بالنابل، والألقاب المجانية التي تُمنح لكل عابر سبيل، ومالك مال..

يا يومَ وقعةِ عموريّةَ انصرفتْ

منكَ المنى حُفّلا، معسولةَ الحلبِ

(4)

رحل الشيخ محمد وفي يده كتاب لم ينتهِ من قراءته، وبيت شعر ما زال يردده، ووردة عابرة من الحياة الفانية، حيث يجلس الغرباء، يغازلون القمر، ويشعلون قناديل القصائد، ويهيمون في ملكوت السماء، ويتنفسون عبير الحكايات العابرة، ويتداولون روايات العابرين في تخوم الراحلين، فالكتاب بالنسبة له حياة يتنفسها، ومجلسه العامر بعبق الماضي ينبؤك عن ذلك المجد الذي يصنعه الرجال، ويورّثه لمن يأتي بعده، ويتمسك به كروح وثابة تسعى للخلود.

(5)

كان بيننا موعد لم يُنجز، ووعد لم يتم، فالأيام تمر كمر السحاب، دون أن نلتفت لها، والأحبة يرحلون دون أن يتركوا وراءهم غير الذكريات والعطر، ثم لا نجد بعدهم إلا قطرة ماء لا تروي عطش الظامئين، ولا تغسل قلوب الزاهدين، نحن الذين لا نلتفت للأيام وهي تأكل لحظاتنا، وتقتات على أعمارنا، وتسافر بنا إلى عوالمها الأخيرة قبل أن يرتد إلى طرفنا، وتأخذ منِّا الأعزة في غفلة منِّا، وننظر لرحيلهم بحسرة فاقد ومفقود.

(6)

رحل الشيخ محمد بن سيف العموري حاملاً معه عبق الماضي، وإرث الزمن الغابر، وسمات رجالٍ افترشوا الأرض ليكتبوا أسماءهم على صفحات السماء، رحل دون كلمة، ودون ضجيج، متوشحاً زادا لسفرٍ طويل، رحل ونحن وراءه نردد بحسرة وحزن قول الفرزدق:

وما نحنُ إلا مثلهمْ غير أننا..

أقمنا قليلاً بعدهم.. وتقدّموا