عادت حليمة إلى عادتها القديمة

 

د. حميد بن مهنا المعمري

halmamaree@gmail.com

 

مثل عربي مشهور عند أخلاط النَّاس وخاصتهم، واستُدعي من بطن كتاب مجمع الأمثال للميداني (ت 518هـ) ليكون عنوانا لهذه المقالة، ومعناه في أقصر عبارة، أنّ الناس تمتنع عن شيء ثم تعود إليه أكثر مما كانت عليه من قبل. وهذا المثل يقودنا إلى أمر مهم ذي بالٍ وهو أنّ النَّاس كل الناس امتنعوا في العصر الكوروني عن أداء مراسم كثيرٍ من المناسبات الاجتماعية بشقيها المفرح منها والمحزن، وكانت الوَفَيَات تُساق إلى المقابر زُمراً، بلا عزاء، ويُزفّ المعاريس إلى أعشاشهم الذهبية زفافاً صامتاً لا ضجيج فيه ولا مشقة ولا عناء ولا (كوشة) ولا قاعة ولا عشاء. وعاد النَّاس إلى ممارسة مناسباتهم كيوم ولدتهم أمهاتهم، لا تَباهي ولا تَفاخر ولا دقّ ولا حطيم، وكان للهاتف المحمول وغير المحمول صولات وجولات في تقديم التبريكات، وأداء حُسن التعازي.

لكن ما إنْ بدت الدنيا تصح وتغتسل من أدران جائحة كورونا ولغوائها إلا وقد رأينا حليمة تعود بقوة وشراهة وشراسة إلى عاداتها القديمة التي رُزِأَت بها فترة من الزمن، وجاءت الفرصة لتعيد الكَرَّة مرتين في تصحيح المسار المعوج في طريقة التعاطي مع المناسبات الاجتماعية التي ترزح تحت وطأة كثير من الأغلال والقيود التي تنتشر بين الناس كانتشار النار في الهشيم، وكأنّ الدرس الذي تعلّمه الناس وأتقنوه وأحبوه ومالت نفوسهم إليه، مسحوه من سبورة مدرسة الحياة، {قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس: 17] ونحن اليوم أمام واقع مرير، يجب على الجميع بلا استثناء القيام بواجبهم تجاهه، وأن يتم مساعدة الآخرين في التخلص من وطأته عليهم؛ لأنّ آثاره على الفرد والمجتمع ليست آثارا قليلة؛ فكم وكم من أصبحت مناسبة فرحه كارثة عليه بسبب التباهي والتفاخر!! وكم وكم أصبحت ولائم العزاء مصيبة فوق المصيبة على أصحاب المناسبة!!

ولا أرى حلّا يشرق خيط صبحه الأبيض لهذه المُعضلة إلّا بالتدخل المباشر من قبل وزارة الداخلية أو وزارة التنمية الاجتماعية في تنظيم هذه المناسبات الاجتماعية بشقيها المفرح منها والمحزن، وذلك بنشر الوعي بين المواطنين خاصة فيما يتعلق بزمن وجودهم في مجالس العزاء بحيث يكون مثلا الفترة الأولى من التاسعة وحتى الحادية عشرة صباحًا، ثم الفترة الثانية من الساعة الرابعة وحتى الساعة الخامسة مساء، ويتم بعد ذلك إغلاق مجلس العزاء. إلى جانب ذلك كله نشر الوعي بأهمية أداء هذا الواجب عن طريق المهاتفة بالهاتف، أو الرسائل، مع ضرورة نشر أرقام هواتف أصحاب العزاء، ومع ملاحظة منع إقامة الولائم أو تقديم الفواكه وأخواتها من الحلوى، والاقتصار على القهوة المرة، كمرارة المصيبة التي جاءوا للتخفيف من آثار وقعها.

إنّ عدم التدخل المباشر في تنظيم مثل هذه المناسبات يجعلها تزداد بدانة ومتانة وورمًا لا شحم فيه ولا لحم؛ لأنها تتغذى من هنا وهناك، وكل يوم تظهر بأشكال وألوان مختلفة في التفنن بإقامتها؛ فأخذ المساكين يواجهون هذا المدّ الأحمر بتنظيم الصفوف والانخراط في جمعيات لهذا الغرض تحت مُسمى جمعية العزاء، بعد أنْ قصمت ظهورهم تلك الأشكال والألوان من الولائم التي ما أنزل الله بها من سلطان؛ ذلك لأنَّه وللأسف الشديد ما دخل التفاخر والتباهي في شيء إلا شانه، وفي المقابل ما دخلت البساطة في أمر إلا زانته وأراحت أصحابه؛ لأنَّ كثيرا من الناس أصبح عندهم حجم العزاء وضخامته ونوع الخيمة أو المجلس من الوجاهة! وأصبح الشخص الذي قَدِمَ لأداء العزاء ويمشي خلفه جيش من أقربائه ولا يعرفون أحدًا من أصحاب العزاء نوعاً من الوجاهة! وأصبح الذي يقطع مئات الكيلومترات لأداء العزاء لمدة خمس دقائق نوعًا من الوجاهة! ما لكم كيف تحكمون؟!

أخيرًا لست ضد إقامة هذه المناسبات، ولكن أرجو وأطمح أن يكون شعارنا فيها لا إفراط ولا تفريط.