الجزائر تحت مجهر الغرب

 

علي بن مسعود المعشني

ali95312606@gmail.com

كثير من عرب اليوم من ساسة ونُخب وعامة لا يُدركون مغزى ودلالة ووظيفة الكيان الصهيوني وسبب غرسه بتوافق دولي في قلب الأمة والمتمثل في فلسطين وهؤلاء ذاتهم لا يُدركون ثقافة وعد بلفور ولا تفاصيل وأهداف اتفاقية سايكس/ بيكو؛ حيث قضت الأولى بمنح فلسطين للكيان الصهيوني من قبل إنجلترا، وقضت الثانية بتقاسم تركة الرجل العُثماني المريض بين قوتي الاحتلال إنجلترا وفرنسا وتقطيع جسد الأمة إلى كيانات مجهرية متباينة تُسمى دولا قُطرية.

هؤلاء العرب يعتقدون أن "الوعد والاتفاقية" شيء من الماضي وجزء من التاريخ وأنهم أبناء اليوم وغير معنيين بهما، وأن بإمكانهم وضع نقطة والانطلاق من أول السطر كأي درس من دروس القراءة والتعبير اللغوي.

أجمل وأجلى قراءة وتحليل تأتي عبر استحضار النتائج على الأرض والتفكر بها بعد ربط حلقاتها، والواقع يقول إن الكيان الصهيوني ليس احتلالًا ولا بدولة؛ بل ولا يُشبه شيئا قائما في العالم حتى نحلله قياسًا عليه؛ بل هو مشروع غربي بهوى صهيوني للقيام بدور المُستعمر بعد جلائه الظاهري من الوطن العربي وتعطيل نمو الأمة عبر تعطيل أي مشروع لها نحو التكامل أو الوحدة أو حتى التضامن؛ بل والسعي الحثيث من قبل الغرب لتمكين الكيان ليُصبح السيد والرقم الصعب في المنطقة وينتقل من الجسد إلى الرأس ليقوم بهذا الدور "القيادي" والذي يمثل الحلقة الأخيرة من أهداف وجوده وغرسه في الوطن العربي للانتقال إلى حلقات صراع في جغرافيات أخرى، لهذا لم يُخفِ الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن نظرة بلاده للكيان الغاصب ودوره في حماية مصالح أمريكا والغرب في المنطقة حين قال: "لو لم تكن هناك إسرائيل ترعى مصالحنا في المنطقة لخلقنا إسرائيل للقيام بهذا الدور".

من يرى عربدة الكيان الصهيوني شرقًا وغربًا ورفع الغطاء عن جرائمه من قبل السيد الأمريكي وأعوانه من الغرب وأدواته في المنطقة، يتيقن بأنَّ هذا الكيان ليس معنيًا بجغرافية فلسطين فحسب؛ بل مخول بضرب وتدمير وقتل كل ما يقع تحت عنوان المهدد لأمنه القومي ومخطط توسعه وهيمنته في أفغانستان أو العراق أو لبنان أو إيران أو أذربيجان أو سوريا أو السودان والمغرب العربي وأفريقيا.

في عام 1991 توجهت الأنظار الغربية نحو الجزائر بعد تدمير العراق كقوة عسكرية إقليمية، والسبب أن عين الغرب كانت تراقب البلدين عن كثب، وكانت كافة التقارير والمؤشرات تقول إنَّ العراق والجزائر في حالات مثالية لمغادرة مربع العالم الثالث إلى العالم الثاني (مثل الهند والبرازيل وإندونيسيا) بسلاسة وفق معطيات تناغم المساحة وعدد السكان والثروات الطبيعية والبشرية في كلا البلدين. يضاف عليها تمتع البلدين بتعليم راقٍ ومخرجات تعليم متخصصة ووفيرة، وقوة مسلحة كبيرة، لهذا استدرج العراق إلى الكويت ونجحت مؤامرة حصاره وتدميره واحتلاله والتنكيل به لاحقًا عام 2003، بينما بقيت الجزائر وفق المخطط لغاية عام 1992؛ حيث تفجرت ما سُميت بـ"العُشرية السوداء"، والتي لم تتسبب في القتل والتشريد والتهجير والنزوح فقط؛ بل حققت أعظم أهدافها- بصمت مطبق- بهجرة العقول الجزائرية النادرة إلى الخارج وتحديدًا فرنسا وبلجيكا وكندا وغيرها.

قبل "العشرية السوداء" بعام تقريبًا رشحت أخبار بأن الكيان الصهيوني يعتزم توجيه ضربة عسكرية خاطفة لتدمير مصنع الحجار للحديد والصلب بمدينة عنابة الجزائرية، والذي كان يُنتج هياكل دبابات وعربات مدرعة وجملة من العتاد العسكري للجيش الوطني الجزائري، ولكن على ما يبدو تراجع الكيان وداعموه عن تنفيذ الخطة لكُلفتها العالية وراهنوا على "العشرية السوداء"، والتي مزقت البلاد وباغتت الجيش الجزائري والقطاعات العسكرية بتكتيكات حروب العصابات وحروب الشوارع والمدن والتي لم يعتدها الجيش النظامي الجزائري إلا لاحقًا.

وقد رصدت المخابرات الجزائرية خلال مراحل تلك المرحلة عناصر من الموساد الصهيوني يقودون جماعات مسلحة بالجزائر مُستغلين شيوع الفوضى وترامي مساحة البلاد والمساحات الغابية الكبيرة، الأمر الذي يؤكد وظيفة الكيان الصهيوني كمعطل ومعيق للأمة من أي نهوض سواء كان هذا النهوض فرديا أو ثنائيا أو جماعيا.

اليوم الجزائر في حالة نهوض وحيوية سياسية ويوجد مشروع وطني لمكافحة الفساد والشللية والحكومة الموازية التي أنتجتها عصابات النفوذ ونهب المال العام سنوات مرض الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة، والجيش الوطني الجزائري والاستخبارات العامة والعسكرية في أعلى درجات الجهوزية والتعبئة، وهي المؤسسات العميقة والوازنة لحماية الجزائر وسيادتها عبر تاريخ الجزائر الحديث، وطالما لم تنجح محاولات اختراق الدولة الجزائرية ومؤسساتها الحرجة عبر منظومة الدولة الموازية، ولا عبر حراك الشارع المدعوم من الخارج، يبقى الخيار هو ظهور اللاعبين الرئيسيين على مسرح العمليات مُباشرة، ومواجهة الدولة الجزائرية في ظل تشظي الجوار الحيوي للجزائر (ليبيا، تونس، المغرب، مالي) وسهولة اختراقه وتجييشه ضد الجزائر عسكريًا ومخابراتيًا وحصارًا كذلك.

لهذا لا غرابة من الضجيج المفتعل اليوم حول الجزائر عبر التطبيع أو تعطيل انتخابات ليبيا والبحث عن رأس بهوى غربي يقودها، وانعدام الجاذبية السياسية بتونس وغياب الدولة في مالي، فجميع هذه الأعراض محسوبة ومرصودة بعناية لساعة الصفر على الجزائر الحبيبة.

الجزائر التي ستستضيف القمة العربية القادمة وتُصر على حضور سوريا العروبة بعد تغييب قسري لها وشغور مقعدها لسنوات طويلة، والجزائر التي ترفض التطبيع مع الكيان الصهيوني تحت أي ذريعة ومسمى، وتناصر فلسطين ظالمة أو مظلومة، والجزائر التي تبذل جهودها مع السلطنة لتعديل ميثاق الجامعة العربية بما يُحقق الحد الأدنى من التضامن العربي، الجزائر التي تدعم سوريا العروبة في محنتها سرًا وعلانية، الجزائر التي تبذل جهوداً كبيرة للم شتات الليبيين وعودة الدولة بها، والجزائر التي تدعم الاستقرار في تونس وتدعم التوافق الوطني بها.

جميع هذه الجهود الدبلوماسية الخيرة التي تقوم بها الجزائر سواء ما علمناه وما لم نعلم، يضعها خصوم الجزائر والعرب في خانة تعطيل مصالحهم الإقليمية، وبالنتيجة لابُد من إكراه الدولة الجزائرية على تغيير نهجها ومواقفها ومساعيها (تحسين سلوكها وفق تعريف البورد السياسي الأمريكي) بما لا يتعارض مع مصالح الغرب والكيان الصهيوني.

حفظ الله الجزائر بما حفظ به ذكره المُنزل العظيم من كل شر وسوء إنه سميع مُجيب.

قبل اللقاء: "من يقرأ التاريخ يقرأ المستقبل" و"أول الجديد فهم القديم".

وبالشكر تدوم النعم..