عائشة السريحية
حين شاهدت مقطعاً من فيلم علمي عن سرعوف ينقض على ثعبان صغير، فيُصيبه في مقتل، أدركت أنَّ كونه حشرة لا يعني أبداً أنه ضعيف.
وحين شاهدت مقطعاً آخر لنملة زرقاء، تهاجم صرصارا أكبر منها حجماً بعدة مرات، وتغرس في جسده مادة تسيطر على دماغه وتمكنها من جره نحو مخبأها وهو بلا حول ولاقوة، لتزرع فيه بويضة نملة جديدة، وينتظر بحياته المسلوبة موته البطيء، أدركت أنَّ الحياة لا تبدو كما هي عليه في الواقع.
هل هناك حقائق ثابتة في الحياة، أو صورة واحدة لوجهها، هل هناك ثوابت لا تتغير، ومفاهيم لا تتبدل؟ أسئلة كثيرة تدور لتشمل كل الحلقات المُتداخلة في حياتنا وحياة غيرنا من المخلوقات.
للحظات تأملت في الصراع السياسي الدولي في أواخر القرن العشرين، كيف انتهت الحروب المسلحة، وكيف بدأت الحروب الباردة، انتصار الرأسمالية، وتفكك أيديولوجيا الشيوعية، كيف نهض المارد الصيني، وكيف تفتت الشعوب، فتسقط قوة وتصعد أخرى، كيف تقوم تحالفات وكيف تتفكك أخرى، كيف يتبادل الجميع أدوار الصداقة والعداء، والزمن كفيل بالاحتواء، وعرفت أن المتغيرات قد تثبت حينا، والثوابت قد تتغير حينا آخر، ولا شيء يستمر.
لا وجود لوجهة نظر صحيحة مائة في المائة، ولا حقيقة ثابتة في الحياة سوى نهايتها، موت الأشياء هو الأمر الذي لا ينكره ولا يستطيع نكرانه أحد.
الناس في القرن التاسع عشر وحتى العشرين، كانت جل اهتماماتهم تتمحور حول توفير الأمان والمأكل والمشرب، بما يكفي لسد رمق الجوع، والستر؛ كما يطلق عليه معظم شعوب المنطقة، وحيث إن الأشياء ليست كما تبدو لنا، فإنَّ الجميع يطلب الكفاية والكفاف، ولكن في حقيقة الأمر، ماذا يعني الستر، الجميع يسعى للرفاهية، هو ليس عيباً ولكنه بذات الوقت ليس أساسيا.
انتشرت بيننا بالتدريج ثقافة الاستهلاك، ومتطلبات الرفاهية، وأصبحت شيئا أساسيا، تجبر البعض على العمل ليل نهار كي يستخدم هاتفا مثلا، سعره أعلى من راتبه، أو يقود سيارة يدفع أقساطها سنوات طويلة ليُحافظ على البرستيج، أو يؤثث منزله بديون قد تدخله السجن لعدم قدرته على سدادها، ونجد موظفة أو ربة منزل تشتري حقيبة أو ساعة تساوي دخلها الشهري لمدة عام أو عامين.
إنَّ واقع الحياة يبدو كرباعية الماء والنار والتراب والهواء، هي أسس بني عليها هذا الكون وما بين ثنايا سرادقها تقطن أسرار لا يعلمها إلا الله، النار تسخن وتبخر وتحرق وتذيب، والماء يغيث الأرض الجدباء، أويغرق الأرض العامرة، قد يصبح سلاما وقد يمسي دمارا، والتراب منه وإليه تعود الحيوات وتتوالى عليه حلقات النظام الكوني، ولا شيء من ذلك يتم دون وجود الهواء.
لكن العجيب في الأمر أنَّ ما تراه بسيطا وعاديا هو معقد، ومعقد جدا لدرجة أن عقلك البسيط لن يربط كل لحظة بين معجزات تدور في فلك هذه الرباعية، وتحدث أمام ناظريك دون أن تحرك فيك ساكنا، ربما لو لعبنا قليلا لعبة الاستدراج والاستدلال لوجدت أن النظام الكوني لا يشغلك بتعقيداته ولا بفيزيائه ولا كيميائه، تخرج من منزلك وتذهب للتنزه في أحضان الطبيعة ترى الأشجار المعمرة الباسقة وتظن أنَّها نشأت من التراب، ويخيل إليك أن معلومات التمثيل الضوئي والخاصية الأسموزية هي علمك المطلق، بينما الحقيقة أنَّ هذه الأشجار نسجت من الهواء!
ليس هذا فحسب؛ بل إنِّك عندما تتنفس تشعر بالأوكسجين وتظن أن الهواء عبارة عن أوكسجين وبعض الغازات بينما ما يقارب ثمانين في المائة هو نتروجين وبخار ماء وغازات أخرى أي أنك لا تأخذ سوى عشرين في المائة فقط منه.
تبدو المسألة أصعب مما تتصور ألا تُدرك أنك تلتهم طوال حياتك حيوات أخرى؟ النبات واللحوم والبيض وغيرها عدا الماء الذي لا تستطيع أنت ولا أنا وصفه بالميت ولا بالحي، لكنه ميت حي وحي ميت، تنتظر قليلاً فتشعل جذوة من نار ولا تعرف عنها سوى أنها مصدر للضوء والدفء والحرارة، ولكنها أيضاً تحتاج لثلاثة أركان الأوكسجين والوقود والحرارة الكافية للإشعال، وإذا سقط ركن لا تتكون، وهي ذاتها التي تخدمك في المصانع والمواصلات وغيرها.
الإنسان المعاصر ابتعد كثيرًا عن هذه الرباعية، وانتقل إلى مساحة لا يشغل باله سوى ماذا بعد، لم تعد الأساسيات فقط هي مايشغل باله، من الشيء الواحد تتوالد مئات الأشياء، ونتيجة لهذه المتغيرات في مفهوم معنى الاحتياج ومافوق الاحتياج نشأت الثقافة الاستهلاكية، ما نريد وما لا نريد، ولكننا نرغب به.
يخرج المرء للسوق يجر عربة تسوقه، متصفحًا الأرفف ومختطفاً المنتجات من عليها، ثم يرمي بها في قعر عربته، مزهوا يشعر بالانتصار، لا يحتاج معظمها، أصبحت حياة الفرد روتينا متوقعاً، إلى أن يحدث مايكسر الحلقة الرابطة بين حدث الأمس واليوم، ليبدأ التغيير، بغض النظر سلباً كان أم إيجابًا.
تطور الإنسان وتطورت الأدوات، ولكن التفكير العميق في جوهر الأشياء، أصبح مهمة النخبة، وعامة الناس يشعرون أن التفكير والتعمق فيه هو مضيعة للوقت، فربما مشاهدة فيلم سينمائي، أو ثرثرة مع صديق هي أجدى وأنفع وأكثر تسلية.
وكسمة لهذا الكون غير القابل للثبات، وللأشياء التي لا تبدو على حقيقتها، تجعل كل عاقل يفكر في جوهر الأمر أياً كان ولا يعتمد على الانعكاس الذي تقدمه له المرآة.