غياب ثقافة التكريم في سلطنتنا الحبيبة

 

علي بن مسعود المعشني

فيما مضى من الوقت كان المُوظف في القطاع العام بسلطنتنا الحبيبة الذي يمتلك هواية أو يزاول نشاطاً يُعاني الأمرين (البيروقراطية وغياب القانون) في حال تطلب الأمر مشاركته في فعالية ما داخل السلطنة أو خارجها؛ حيث كانت خياراته التفرغ من رصيد إجازته السنوية الاعتيادية أو التخلف والاعتذار رغم كون المناسبة وطنية مثل المُشاركة بتمثيل السلطنة في منتخبات أو فرق رياضية وطنية أو فعاليات فنية أو ثقافية.

ومع الأيام تداركت الحكومة فداحة ذلك، وأدركت أهمية حضور السلطنة في المحافل الإقليمية والدولية وأهمية تشجيع المواهب بالسعي لإكسابها المزيد من الخبرات والتجارب عبر مشاركاتها بالداخل والخارج، فكان القرار بإضافة مادة بقانون الخدمة المدنية يسمح بتفريغ الموظف للمشاركة في أي نشاط أو فعالية تخدم السلطنة وتمثلها، وكان هذا القرار بمثابة فتح كبير للموظفين الرياضيين منهم على وجه التحديد كونهم الأكثر نشاطًا ومشاركة داخليًا وخارجيًا، وكذلك غيرهم من فئات الفنانين من مختلف الشرائح والكتاب ومن في حكمهم.

أقدمت العديد من دول المنطقة والعالم على تشريعات وخطوات عملية لحماية وتشجيع المواهب والعقول وتحفيزها للمزيد من العطاء، فمنها من عمل على تفريغها تفريغًا تامًا مع احتفاظها بكافة امتيازاتها الوظيفية كأمان مالي ووظيفي لها، ومنها من رفع العيار بتخصيص قطع أراضٍ لتلك الفئات مع التفريغ، ومنها من استحدث حواضن غير مسبوقة كالبرازيل والتي أنشأت بنك العقول، مهمته اختزال عضوية كل العقول الوطنية التي تُصنف تحت خانة الإبداع، وتأمين حياتها ماليًا ودعمها ورعايتها بما يلبي حاجاتها ويحقق من خلالها مقاصد الدولة وصولًا إلى تخليدها وتكريمها حتى بعد رحيلها.

وفي ليبيا معمر القذافي، كان العقيد الراحل يُردد شعار "الشاعر والمناضل لا يتقاعدان"، لهذا منع تقاعد المبدعين من كتاب وشعراء ومفكرين ومن في حكمهم، ومنحهم درجات وظيفية عالية ورواتب مُجزية إضافة إلى تفرغهم التام لإبداعاتهم، وكان أغلبهم على تواصل مباشر معه شخصيًا لتذليل أي عقبات تعتري مسيرتهم ولتلبية أي مطالب أو اقتراحات منهم. وبفضل هذا الاحتضان والتبني والرعاية من القذافي شخصيًا عرف العالم الأديب الليبي العالمي إبراهيم الكوني (كمثال) والذي تُرجمت أعماله إلى أكثر من 40 لغة، والعلامة الصادق النيهوم، والفيلسوف رجب بودبوس، والروائي أحمد إبراهيم الفقيه، والعلامة علي مصطفى المصراتي، والعلامة علي فهمي خشيم، والشاعر محمد الفيتوري وغيرهم من الأسماء.

بينما نحن في سلطنتنا الحبيبة لم نتقدم خطوة ثانية بعد التفريغ المؤقت لنعزز من قدرات الطاقات المبدعة الخلاقة وبالنتيجة فقدناها تباعًا، وفقدنا مع غيابها القدوة التي كنَّا نأمل خلقها والبناء عليها تراكميًا. ولم نتمكن طيلة 5 عقود من خلق مُطرب حقيقي كبقية البلاد من حولنا ولا موسيقي حقيقي رغم كثرتهم ووفرتهم، ولا فنان تشكيلي عالمي رغم وجود الطاقات الخلاقة منهم، ولا رياضي عالمي باستثناء الكابتن علي الحبسي والذي شق الطريق نحو العالمية بعصاميته، ولا شاعر بامتداد قامات الخليلي والبهلاني وأبو سرور.

أتابعُ بين حين وآخر قدرات عُمانية مُشرفة نالت المجد بعصاميتها فأرى تكريمها خجولًا وبدائياً بل ومُخجلًا كذلك مُقارنة بجوارنا، والمتعارف عليه عادة في التكريم للإبداع والمبدعين؛ حيث ما زلنا في مرحلة التكريم بالقلم والدرع وباقة ورد!!، فالتكريم للمنظومة وليس للفرد بعينه، فتكريم الشاعر هو تكريم للشعر، وتكريم الكاتب هو تكريم للقلم الذي أقسم به الله عزَّ وجلَّ، وتكريم المطرب هو تكريم للفن والموسيقى...إلخ.

أتمنى من كل قلبي إعادة النظر في تكريم الإبداع في شخوص المبدعين، بالتفريغ الوظيفي والسكن اللائق والدعم والتشجيع عبر التوسع في المشاركات والمناشط والفعاليات بداخل السلطنة وخارجها، واعتبار هذه الفئة ثروة وطنية بكل المقاييس. وهذا الأمر يتطلب- في تقديري- وجود جهة بعينها تقوم على مسؤولية لائحة لائقة للتكريم، وتُعنى بالتواصل بين القطاعين العام والخاص للحصول على دعومات مالية وتحفيزية لمكافأة الإبداع والمبدعين، وتنظيم فعاليات تكريم تليق بهم، بدلًا من الجهود الحالية المُبعثرة والخجولة والتي لا تواكب عصرا ولا تلبي طموحا ولا تحقق مقصدا.

قبل اللقاء.. جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب، ليست جائزة؛ بل خارطة طريق لأولي الألباب.

وبالشكر تدوم النعم.