مسعود أحمد بيت سعيد
منذ فترة جمعنا لقاء ودي صافٍ في أحد سفوح جبل سمحان الأشم في مُحافظة ظفار، برفقة مجموعة من النخب الثقافية والإعلامية العُمانية، في ضيافة الكاتب والروائي محمد الشحري، بعضهم آتٍ بعد انقطاع طويل.
كان الحديث شيقا وجميلا ومفيدا، بدأ من المكان وما يحتله في الذاكرة الشعبية مرورًا بالهموم الوطنية وطبيعة المرحلة والتحديات التي تواجه العُمانيين وسط استحقاقات غير مسبوقة. فيما عوام الناس مضغوطين بالهموم المعيشية والتي علقت الآمال الكبيرة دون أن تحصد إلى الآن شيئًا ملموسًا سوى المزيد من الضرائب التي أرهقت جيوب أغلب الشرائح الاجتماعية وفقدان بعض المكتسبات.
ولم يخلو الحديث بالضرورة من الشجون القومية وما تتعرض له أمتنا العربية من أزمات على كافة الصعد، ومن الطبيعي أن تكون فلسطين حاضرة، مما يؤكد مركزيتها في الوجدان الشعبي. ولقد تشعب الحديث في كل الاتجاهات ولا أعرف كيف طرح بعض الإخوة المُقارنة بين غسان كنفاني ومحمود درويش، ولأن معظم الحاضرين هم من قارضي الشعر ومتذوقيه، ومن عشاق كافة الأجناس الأدبية ومتابعي مراحل تطورها، فقد كانوا أكثر شغفًا وولعًا بدرويش.
تطرقنا لسؤال أظن قد أثير في مناسبات مُختلفة، حول: من الذي حمل من؟ ومن الذي ساهم في شهرة من؟ هل القضية الفلسطينية أم محمود درويش؟ طبعًا درويش عندما اكتمل نضجًا شعرًا ونثرًا وأخذ شهرة واسعة أصبح شديد الحساسية تجاه هذا السؤال، وقد أجابه بطريقته على ذلك. لا شك في قيمة وأهمية درويش ليس عربيًا فقط؛ بل وعالميًا، وهو قد بذل جهدا كبيرا في تطوير لغته وأدواته التعبيرية والمعرفية بشكل مذهل، في محاولة فريدة ليسمو بها إلى الآفاق البعيدة، وقد نقش اسمه في سجل الشعراء العظام في عصرنا ولعل في كل العصور.
رغم ذلك أعتقد أنَّ القضية حملت درويش؛ وهي سبب شهرته دون التقليل بالطبع من إبداعاته ونتاجاته الشعرية، فالقضية الفلسطينية أعدل قضية قادرة على حمل مثقفيها وأدبائها ومناضليها إلى أمادٍ أوسع "إنَّ القضايا النبيلة تشهر قادتها ومفكريها وشعراءها". ولأني لستُ من محبي المقارنات، لما يكتنفها من إجحاف في إهمال بعض الجوانب الجوهرية التي قد تغيب دون قصد التقليل، لكني من المعتقدين بأن مكانه كنفاني تعلو كثيرًا على غيره لأكثر من سبب.
وإذا حصرنا موضوعنا على النواحي الأدبية والثقافية، فغسان مبدعٌ كبيرٌ وذو إنتاج غزير، غادرنا مبكرًا وهو في الثلاثينات من العمر، وقد ساهم مُساهمة جبارة في التعريف بالقضية الفلسطينية؛ سواء من خلال رواياته التي جسدت المأساة الفلسطينية، أو من موقعه كمثقف عضوي وناطق باسم الجبهة الشعبية ورئيس تحرير مجلتها المركزية "الهدف". ولما للتنظيم والمجلة من دور في إبراز الوجه المشرق من النضال الوطني الفلسطيني عربيا وعالميا. وقد كان قادرا على اكتشاف المبدعين واستشفاف مواهبهم وإبداعاتهم.
وفي هذا الصدد، من الذي لا يعرف دوره في تعريف الجماهير العربية بشعراء الأرض المحتلة وفي مقدمتهم محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد؟ إضافة تعريفه بالأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال. من هنا فإنَّ كنفاني ربما كان أكثر الأدباء التزامًا ووعيًا بما يُحاك للقضية الفلسطينية وسبل مواجهتها بالمفهوم الشمولي ثقافيا وسياسيا وعسكريا، وكان مبكرًا في فهم طبيعة الحركة الصهيونية وأفرد لها حيزًا واسعًا من اهتماماته؛ الأمر الذي وضعه في دائرة الاستهداف المباشر من قبل قادة الكيان الصهيوني.. بهذا المعنى فإنَّ رسالة كنفاني أكثر وضوحًا وانحيازًا لقضية الحرية، وقد حارب في ساحات أكثر عنفًا وشراسة.
وعند استشهاده قالت جولدا مائير "لقد تخلصنا من فيلق فكري مُسلح".
الخلاصة.. سيبقى كنفاني ودرويش من الظواهر الإبداعية الكبرى في العالم العربي التي تستحق التوقف عندها بتأنٍ.