علي بن مسعود المعشني
أتابعُ بشغف واهتمام كبيرين حراك أشقائنا في السُّودان منذ الإطاحة بالرئيس عمر البشير وما تلى ذلك من التوافقات بين المجلس العسكري ورموز من الحراك الشعبي والذي أسفر عن حكومة الدكتور عبدالله حمدوك، ثم قيام المجلس العسكري بعزل حكومة حمدوك ووضعه قيد الإقامة الجبرية، الأمر الذي أشعل الأزمة الأخيرة اليوم.
كل التفاصيل التي شهدها السودان خلال العامين الأخيرين في تقديري هي نتائج وليست أسباب، فالأسباب الحقيقية تكمن في الموروث السياسي وتقاليد الحكم في السودان منذ استقلاله عن إنجلترا عام 1956. بُني السودان الحديث سياسيًا على موروثه الديني والمتمثل في طائفتي الأنصار والتي يتزعمها آل المهدي ويمثلها حزب الأمة سياسيًا، وطائفة الختمية الصوفية والمتمثلة في زعامة السادة الأشراف آل الميرغني ويمثلها الحزب الديمقراطي، ثم أتت مؤسسة الجيش حديثًا كمؤسسة وطنية عميقة ووازنة في المشهد السوداني؛ حيث كانت تقوم بدور الإنقاذ والدفاع المدني، كلما أشعل الساسة حرائق في الوطن وأفسدوا المشهد السياسي العام للدولة وتعرض السلم المدني للخطر.
تعاقبت على السودان حكومات شتى منذ استقلاله وبألوان الطيف ومثلت الطيف المدني والعسكري وتكونت من رجال طوائف وتكنوقراط وساسة مُستقلين، وفوق كل ذلك لم يلبِ السودان طموح أبنائه في التطور والتقدم نحو الأمام بفعل توظيف مقدرات البلاد الطبيعية والبشرية والتي لايُمكن حصرها، فتكون النتيجة في الغالب تدخل المؤسسة العسكرية لإنقاذ البلاد من هاوية أو احتراب أهلي، حتى أصبح هذا الوضع اليوم نظرية سودانية بامتياز. عصب مشكلات السودان تاريخيًا في تقديري هو النزق الطائفي وتقديم مصلحة الطائفة على الوطن، فالتنافس بين الأنصار والختمية واللتين تمثلان طيفاً واسعاً من الشعب السوداني جعل السودان كحال الطوائف والمحاصصة في لبنان حيث الحلول يسيرة ومرئية وممكنة بالعين المجردة ولكنها في كفة ميزان الطائفية والزبونية السياسية وبالنتيجة تراجع السودان كدولة وشعب في سُلم اهتمامات الساسة والحكومات المتعاقبة عليه.
الأمر الآخر في معضلات السودان الأزلية هو الموروث والنظرة الاستعمارية للسودان ومنذ استقلاله؛ حيث وضع السودان تحت مجهر الغرب الاستعماري وحكم عليه بعدم الاستقرار لأن استقراره يعني استقرار الوطن العربي بأكمله عبر تمتعه بثروات السودان الطبيعية وعلى رأسها تحقيق الأمن الغذائي العربي، فالسودان مشروع وليس قُطر سياسي والغرب يُحارب كل مشروع نهضوي عربي.
كم أشفق على أشقائي السودانيين اليوم من نُخب وعامة حين أسمعهم يرددون مطالبهم في الإصلاحات السياسية والاقتصادية والمتمثلة في تحقيق العدالة والحرية والديمقراطية والتداول السلمي للسُلطة (وكأنها غابت عن أسلافهم)، وهي وصفة جميلة ومطالب مشروعة ولكنها بطعم الحُلم في الوطن العربي هذا الوطن المحكوم بـ"فيتو" غربي للحرمان من التنمية الحقيقية والاستقرار السياسي؛ لأن ذلك يعني الانعتاق من براثن الاستعمار الجديد والمتمثل في التبعية التامة للغرب، وفي حالة مثل السودان تتضاعف الضغوط الغربية كون السودان وصفة مثالية للنهوض ونموذج جاهز للتطبيق وبأقل التكاليف.
لهذا لا يستغرب المُتابع للشأن السوداني حجم المؤامرات عليه بالتقسيم والمناطقية وتكريس الطائفية... إلخ، الأمر الذي جعل مناورات الساسة السودانيين وخياراتهم ضيقة جدًا إن لم تكن معدومة للإصلاح والتغيير نحو الأفضل؛ بل مستنسخة إلى حد التطابق في كثير منها، لأنَّ أي حديث أو محاولات للإصلاح والتغيير في السودان لابُد أن ينال من الدولة العميقة والموروث السوداني العصي على التغيير أولًا، ثم الانقلاب على السيناريو الغربي المرسوم لواقع السودان؛ كي يبقى تحت السيطرة والتبعية الغربية إلى الأبد.
المؤامرت على السودان أكبر بكثير من محاولات إصلاحه والتنظير وحراك الشارع، فالمتأمل في تاريخ السودان الحديث يجب أن يتساءل عن أسباب تخلف السودان مقارنة بممكناته وليس إمكانياته؟! وهل غاب عن جميع من قادوا السودان منذ استقلاله الوطنية والإخلاص والسعي لتطوره؟! ولماذا في كل أزمة في السودان تهب جحافل المبعوثين من الغرب والمنظمات الدولية وكأنَّ السودان محور الكون بينما لا يحظى منهم بأيِّ دعم أو اهتمام في أزمنة السلم؟!
السودان ليس حالة خاصة في المشهد العربي المحكوم بـ"سايكس- بيكو" و"وعد بلفور"، وأعراض غرس الكيان الصهيوني في قلب الأمة؛ فكل نهوض عربي فردي أو جماعي أو كلي في حسابات الغرب، يعني فناء مشروعهم الصهيوني لتفتيت الأمة العربية والحكم عليها بالتبعية والتشظي، والحل يكمن في نظر الغرب هو سياسة الإلهاء بفتات الديمقراطية وشعاراتها وضجيجها ومظاهر دولة سوبر ماركت بعلم ونشيد وطني وعملة وكذبة سيادة إلى تآمر آخر.
قبل اللقاء: لا تفكر في المفقود فتفقد الموجود.
وبالشكر تدوم النعم..