حتى لا ننسى جيل الرائدات العمانيات (5)

 

د. راجحة عبد الأمير.. المرأة الرقمية

د. مجدي العفيفي

(1)

عرفتُ الدكتورة راجحة عبد الأمير- رحمها الله- عن قرب منذ مطالع عقد الثمانينيات من القرن الماضي، ليس فقط لأن الضرورة الصحفية تحتم التعرف على شخصية هي بمثابة شخصية «محورية» في المؤسسة الاجتماعية العمانية؛ إذ إنها من الرائدات اللائي وضعن اللبنات الأساسية في صرح جمعية المرأة العمانية، وليس فقط لأنها شريكة حياة الصديق الكبير المُفكر مرتضى حسن؛ بل أيضًا لأنها شخصية تأسيسية في المؤسسة الاقتصادية، كمرجعية رقمية، ومصدرية للمعلومات والإحصائيات، في واحدة من أهم مؤسسات الدولة، وزارة الاقتصاد الوطني.

منذ البداية حتى النقطة الأخيرة في سطر حياتها، ونحن أمام شخصية مركبة، رقمية في المقام الأول، وعقلية اقتصادية، فقد تخرجت في قسم الرياضيات بجامعة بغداد في عام 1972 ونالت شهادة الدكتوراه في عام 2005 من جامعة أكسترا البريطانية حول أطروحتها عن التنمية في عُمان. وما بين هذين التاريخين قطعت أشواطًا وعبرت مراحل، وكان عنوانها: المزاوجة بين ثنائية العلم والعمل، فاستطاعت أن تزيل حواجر كثيرة في المسافة بين التصورات والتصديقات.

(2)

كافحت راجحة عبد الأمير مع شقيقاتها من الجيل الرائد للمرأة العمانية في تغيير نظرة المجتمع إلى المرأة، وهي التي استقطبت الانتباه منذ خطوتها الأولى، حين تم تعيينها «مفتشة» في وزارة المعارف -وزارة التربية والتعليم حاليًا- في خريف ذلك العام حدث أن زار السلطنة وفد من الصندوق الدولي للتنمية التابع للأمم المتحدة للمساعدة في إنشاء أول مركز إحصائي في عُمان لأهمية الإحصاءات لأغراض التخطيط وتم اختيارها كأول «مسؤولة» عن الإحصاءات الوطنية.

تم تعيين راجحة عبد الأمير كأول مدير للإحصاءات الوطنية في المجلس الأعلى للتخطيط الاقتصادي والإنمائي 5 أكتوبر 1972 وبعد تشكيل مجلس التنمية 17 نوفمبر 1974 صارت المدير العام للإحصائيات الوطنية، لتصبح أول امرأة عمانية تحتل منصب المدير العام وكانت أحد الأعضاء الفاعلين في مجلس التنمية.

(3)

شهد عام 1988 نقلة نوعية ليس فقط في مسيرة راجحة عبد الأمير؛ بل في مسيرة النهضة العمانية، وتحديدا في بعدها الاقتصادي والسياسي، وهي النقلة التي جعلت المرأة العمانية «الأولى» في تولي المناصب الكبرى والرفيعة في منطقة الخليج عامة، وتعبير الأولى هو بلغتنا الصحفية «المانشيت» الذي تحته طيرت الكثير من الأطروحات الصحفية إلى العديد من كبريات الصحف والدوريات العربية والأجنبية التي كنت أكتب فيها وأراسلها سنوات وسنوات.

ففي السادس من فبراير من ذلك العام تم تعيين راجحة وكيلاً لشؤون التخطيط بالأمانة الفنية لمجلس التنمية. وبعد إنشاء وزارة التنمية بتاريخ 15 يناير 1994 تم تعيينها وكيلا لوزارة التنمية لشؤون الإحصاء والمعلومات، وأشرفت على أعمال المديرية العامة للسياسات والبرامج الاقتصادية.

وما من مؤتمر اقتصادي، أو ندوة استثمارية، أو منتدى مالي، أو أية فعالية في عالم المال والأعمال والتجارة والاقتصاد، إلا وكنَّا نرى راجحة عبد الأمير وجهاً مضيئاً فيها، وقاسمًا مشتركًا، تتحدث وتناقش وتطفى الكثير والكبير والمعقد من علامات الاستفهام. ولا أنسى أبدًا المؤتمر الصحفي السنوي الذي كان يعقد في بداية عام عن الموازنة العامة للدولة، وكنا نناقشها في أمور كثيرة مع الوزير الاقتصادي المُحنك عبد النبي مكي، وكانت راجحة عبد الأمير نوارة هذه المؤتمرات، رغم جفاف لغة الأرقام وثقل الإحصائيات.

وبعد إنشاء وزارة الإقتصاد الوطني في ديسيمبر عام 1997 تم تعيين راجحة عبد الأمير وكيلا لشؤون التنمية في وزارة الاقتصاد الوطني، ويذكر لها التاريخ أنها أشرفت على أول تعداد للسلطنة في عام 1993، كما أشرفت على التعداد الثاني في عام 2003 كما ساهمت في كل الخطط الخمسية في مجلس التنمية ووزارة التنمية ووزارة الاقتصاد، وكان لها دورها الخلاق والمساهمة الفعالة في استراتيجية (رؤية عمان 2020).

(4)

ونقلة نوعية أخرى تجاورت فيها الثقافة مع السياسة مع الاقتصاد، وقد تجلت في إنشاء أول وزارة للسياحة واختارت القيادة الساسية راجحة عبد الأمير وزيرة للسياحة بتاريخ 9 يونيو عام 2004. والوزير منصب سياسي، وتحاورت مع الوزيرة مرات عديدة في صحف مثل السياسة الكويتية، والأخبار المصرية ومجلة فوربز الاقتصادية الأمريكية، وغيرها.

شاركت الدكتورة راجحة بنت عبد الأمير في الكثير من المحافل والمؤتمرات المحلية والعالمية، وقالت لي الوزيرة «إنها تتخذ من تبيان إمكانيات السلطنة واستراتيجتها السياحية والمقومات الحضارية والحاضرة، مادة ثرية ومنهاجا في تقديم أطروحاتها إلى العالم، وذلك هو الشغل الشاغل لي في تطوير الحركة السياحية بما يتفق مع الإمكانيات والمقومات السياحية وبما لا يتعارض مع العادات والتقاليد والموروث الثقافي للسلطنة خاصة والمنطقة عموما»، وفي هذا السياق يذكر لها أنها قامت بوضع حجر الأساس لمشروع «مركز عُمان للمؤتمرات والمعارض» بتاريخ 3 يناير 2010 في حي العرفان بولاية بوشر ضمن محافظة مسقط.

(5)

كثيرة وثمينة هي تلك الجوائز التي نالتها الدكتورة راجحة عبد الأمير، ومنها: جائزة الشرق الأوسط الثامنة للشخصية النسائية القيادية لتحقيق أفضل الإنجازات، كما كرمتها القيادة السياسية إذ نالت وسام الإشادة السلطانية من الدرجة الأولى بالعيد الوطني الأربعين في بيت البركة 28 نوفمبر 2010.

واختارتها دوائر كثيرة في العالم ضمن أكثر 20 شخصية نسائية قوة ونفوذا في الشرق الأوسط في عام 2010، وعندما كنت أدير مكتب مجلة «فوربز» اختارت المجلة شخصية راجحة عبد الأمير ضمن مائة امرأة مؤثرة وقوية في مجال التنمية في العالم 2003.

(6)

شحب زيت مصباح راجحة عبد الأمير في عامها الأخير 2010 وهي تقاوم المرض المتوحش في المستشفى السلطاني، ثم كان انطفأت شمعتها رقم 57 مع سدول ليل الأربعاء 29 صفر 1432هـ الموافق 2 فبراير 2011.

وقد أصدر مجلس الوزراء يوم الأربعاء بيانًا، نعى فيه معالي الدكتورة وزيرة السياحة: «بقلوب مؤمنة بقضاء الله وقدره ينعى مجلس الوزراء معالي الدكتورة راجحة بنت عبد الأمير بن علي وزيرة السياحة التي وافتها المنية مساء هذا اليوم نسأل الله جلت قدرته أن يتغمدها بواسع رحمته ويدخلها فسيح جناته وأن يلهم أهلها وذويها الصبر والسلون، إنا لله وإنا إليه راجعون».

(7)

كتلة سردية مشوبة بالحزن العميق والشجن الشفيف والدمع الحارق.. تدفقت من قلم الزوج .. وهو الكاتب والمُفكر مرتضى حسن، بكاها وأبكانا معه.. لاسيما بتعبيره النازف في ذكرى رحيل «راجحة» الصبر هو الآخر بحاجة إلى صبر» والذي اتخذه عنوانا لمقاله، بعد مرور سنة على رحيل حبيبته وشريكة عمره، وأشهد أنه كان محبها الأكبر، كان يحبها حباً جماً، ليس كمثله حب... فحق لقلبه أن ينزف هذه المشاعر والأحاسيس، والتي تمثل مرآة نرى من خلالها راجحة عبد الأمير، الإنسانة والزوجة والحبيبة:

وأختار بصعوبة منها دمعة.. دمعتين .. ثلاث دمعات.

سنة كئيبة مرت وانكفأت ويا لها من سنة.. كنت أعدُ لياليها ليلة بعد ليلة، وأحسب أيامها على أصابع روحي فتثبت نتوءات من القهر والحزن تخدش اللحم الحي للقلب..ها أنذا أكتب بقرب الضفاف الحزينة لليوم الثاني من فبراير الذي وشم نفسه على قلبي حافرًا فيه أخاديد عميقة لا أقوى على ردمها.. بذلت جهودًا كبيرة لعبور هذه الضفة، ولم أزل، ولكن أشعر أن قوى كبيرة تشدني إليها.

 هو العمر الذي قضيته معها. كيف يمكن أن أستمتع بالمكان مثلما كنت وهي غائبة عني؟ بل كيف يسعد الكون معي وهي بعيدة عن فصوله، بعد أن رحلت عنَّا في رحلتها السرمدية ؟

 هذه السنة لم تكن مجرد 365 يومًا.. كل يوم فيها يسير وهي موجودة في أعماقي.. قدري أن أبقى وحيداً على غصن مثل عصفور حائر لا يعرف إلى أين سيحلق برغم اتساع السماء.. وبرغم أنَّ بناتي وابني وزوجته لا يتركون شيئاً إلا وفروه لي، ولكن أشعر أنَّ المساحات على العصفور تضيق، كنت أصبر لأكتشف أن الصبر هو الآخر بحاجة إلى صبر.

 رحلت صابرة على الآلام الجسدية التي عاشت معها منذ الشهر السادس من عام 2010. رحلت الإنسانة التي تعلمت منها صدق الصديقة، وصدق الزوجة وحنان الحبيبة، وصدق وحنان الأم، وصدق الأداء في العمل، رحلت الإنسانة التي علمتني كيف يكون الوفاء، وكيف يكون العفو عند المقدرة.

أكتب الآن كلمات ليست كباقي الكلمات.. كلمات رثاء لا تجدي، رحلت بهدوء، فتركت غصة في القلب وحرقة في النفس.. نحن كلنا يا راجحة.. يا أم فيصل.. عليك لمحزونون، نبكي عليك يا ملاكنا.. نبكي كل الخير والعطاء .. وكل الحب والوفاء.. سنظل نتذكرك دائماً.. تغمدك الله برحمته الواسعة وأسكنك فسيح جناته.. سوف تعيشين دومًا معنا وفي ضمائرنا، وفي أحلامنا.

(8)

صدق الرجل الزوج المحب.. ورحم الله "أمَـتَه راجحة".. العبد المخلص، والإنسان الصادق، والوزيرة القديرة، والمرأة الرقمية.