د. صالح الفهدي
كُرِّمَ أحدُ مديري الدوائرِ ضمنَ برنامجٍ لتكريم المجتهدين في أعمالهم من قِبل الوزارةِ التي ينتمي إليها، لكنَّ تكريمهُ كانَ صادماً للجميعِ عدا اللجنة التي رشَّحتهُ في وِحْدَتهِ التي رفعت اسمهُ ضمنَ أسماء المرشَّحين للتكريم في ذلك العام، ومبعث هذه الصدمة أنَّ الرَّجلَ المكرَّمَ لم يكن منضبطاً في دوامه، كثيرَ الغياب، مهمِلاً في واجبات عمله، وكان نائبهُ هو الذي يُدير فعلياً أعمالَ الدائرة، وهو الحاضر في المشهد الإداري..!
لكنَّ المدير ذهبَ إلى احتفالية التكريم وهو يتضاحكُ في نفسه ويتندَّر على تكريمه، فكُرِّم مع المجتهدين، المخلصين، المنضبطين! وكانَ سعيداً بالتكريم أيَّما سعادة فقد جاءهُ مجانياً بل وكان بمثابةِ مكافأةٍ له على إهماله، وتماديهِ في الغياب وغير ذلك من الأُمور التي لم تكن خفيَّةً عن إدارته العُليا، والتي كان يعتقد أن سيفصلُ بسببها، إلاَّ أنه تفاجأ بالتكريم..!! على أن الإِخفاق الذي ارتكبته اللجنة في ترشيحه للتكريم قد تناهى خبرهُ لاحقاً إلى وزيره الذي تذمَّرَ من ذلك وأمرَ بسحب شهادة التكريم منه، وحذفِ اسمه من قائمة المكرَّمين لكن ذلك الإجراء قد تمَّ في الخفاء!
هُنا أقفُ عند مصطلحِ التكريم وأثره الإيجابي والسلبي؛ فالتكريم في عمومه له عدَّةُ غايات أولها: أنهُ مكافأةٌ لمن أحسن العمل، وأَبانَ عن جهودٍ تستحقُّ الشكر والتقدير، ثانيها: دفعُهُ إلى مزيدٍ من العطاءِ، والبذلِ والجهد، والإتقان، ثالثها: إرسال رسالةٍ تحفيزٍ وتعزيزٍ إلى الآخرين بأنَّ من يعمل ويجتهد ويُبدع فإنَّه سينالُ التكريم، رابعها: تحسين سمعة الدولة/ الوزارة/ الجهة التي تقوم بالتكريم في أنها مهتمَّةٌ بتكريم أهل الجدارة والاستحقاق فيها.
ووفقاً لذلك، فإنَّ للتكريم معاييرَ واضحة يكرَّمُ على أساسها من يستحقُّ التكريم، بحيثُ تدفعُ عنه تساؤلات الناس وفضولهم واستنكارهم لأنها بيِّنةٌ، واضحةٌ لا لِبْسَ فيها، وحينما تنطبقُ تلك المعايير على شخصيةٍ مستحقَّةٍ فهي غالباً ما تجدُ الإِشادة لأنَّ التكريم قد ذهبَ إلى صاحبه، وحقق غايته، وإن شابَ الغموضُ التكريمَ فقد حُقَّ للناس أن يتساءلوا: لِمَ كُرِّمَ فلانٌ أو فلانةٌ من الناسِ دونَ غيرهم؟ ما الذي فعلوه ليستحقوا التكريم؟
هذا الغموضُ يدفعُ إلى الإستنكارِ والإستهجانِ من أنَّ التكريم قد ذهب لمن لا يستحقه، والأدهى من ذلك أنَّه يبعثُ رسالةً خاطئةً إلى غير المستحقين بأنَّ لديهم فرصةً للصعودِ إلى منصَّة التكريم دون حاجةٍ إلى الإجتهاد أو التميُّز أو إحرازِ الأعمالِ المشرِّفة، فهم بحاجةٍ إلى علاقةٍ وديَّةٍ مع المكلَّف بإعداد قوائم التكريم أو المؤثِّرين عليه!!
التكريم موضوعٌ حسَّاس وله أبعادهُ النفسية والاجتماعية والفكرية والعملية، وما لم يُرسَ على قواعدَ متينةٍ، ومعايير واضحة فإنَّ نتائجه ستكون عكسيَّة بل وكارثيَّة!. أمَّا معاييرُ التكريم فلن تكون من الصعوبةِ بمكانٍ تحديدها، إذ هي تتعلَّقُ بالعطاءِ والإنجازِ المكرَّمِ عليه، فإن كُرِّم طبيبٌ فإنَّ معايير التكريم قد تتضمن انضباطهُ في مواعيدَ عمله، تواضعه ومعاملته الحسنة مع المرضى، تعاونه مع زملاء العمل، توخِّيه دقة الإنجازِ المهني، سمعتهُ الطيبة بين المرضى المعالجين لديه، وهكذا. وإن كُرِّم أديب مثقف فإنَّ معايير التكريم قد تشمل: أعماله الأدبية التي ترتقي بالذائقة الأدبية للقراء، خدمته للهوية وتعميق جذورها، جهده في الإرتقاء بوعي المجتمع من خلال أعماله، حضوره الملفت في المحافل المختلفة.
وهكذا تُنشأُ معاييرٌ محدَّدة لكلِّ تكريم، أمَّا أن يخلو الأمر برمَّته من معايير فذلك يعدُّ استهانةً بالتكريم ذاته، وإجحافاً في حقوق المستحقِّين له ممن لا تشملهم النظرة القاصرة فيه، وخيرٌ من تكريمٍ بلا معايير أنَّ لا يكون أصلاً حتى لا يذهبَ لغيرِ أهله!!
وحديثنا هُنا عن التكريم يشملُ عضو مجلس الدولة الحامل للقب (مُكرَّم) وهو ما يعني أنَّهُ كُرِّم بعضويته في هذا المجلس الذي يتمتعُ بثقلٍ سياسيٍّ وتشريعي، فإذا نظرنا إلى طبيعة المجلسِ وعمله، فإننا قد نقارنه بمجلس الشيوخِ في أمريكا أو بمجلس اللوردات في بريطانيا، وهو ما يعني أن الأعضاء يجب أن يتمتعوا بالخبرة العميقة، والنظرة السديدة، والبصيرة الثاقبة في معالجتهم للأمور على اختلافها، ومن هُنا فإنَّ بيننا ممن تنطبقُ عليهم هذه المعايير التي تؤهلهم ليكون أعضاء مكرَّمين في مجلس الدولة فيستفيدُ المجلسُ من آرائهم، وأفكارهم، وأطروحاتهم في إنجازِ أعماله، الأمر الذي يعني استفادة الوطنِ عامَّةً منهم، فإذا كان الاختيار سديداً وحصيفاً كان لذلك أثرهُ الإيجابي ليس على المجلس وأدائه وحسب بل وعلى الوطنِ والمخلصين فيه.
هذا الأمر يقودنا إلى المكلَّفين بأمرِ التكريمِ على اختلاف مستوياته ومراتبه وطبيعته، لنقولَ بأنَّهم يجب أن يتمتعوا بالحيادية التَّامة في ترشيح المستحقين للتكريم، والأمانة والنزاهة في ما كلِّفوا به، فلا يختاروا أحداً لأسبابٍ شخصيَّةٍ؛ بل إن تكون لهم النظرات البعيدة التي تصبُّ في مصلحةِ الوطن. إن هؤلاءِ الأُمناء على التكريم يجب أن يؤدوا الأمانة في أتمِّ حالٍ، وأكملِ وجهٍ، مراعين الواجب الوطني دون محسوبيةٍ ولا مراعاةٍ لأحد.
خُلاصةُ القول.. إن التكريم ليس قائمةَ أسماءٍ يجبُ ملؤها، ولكنَّهُ طاقةٌ معزِّزةٌ للقيم العُليا، شاحذةٌ للعزائم العتية، ومحرِّك دافعٌ للجهودِ الإبداعية، والأفكار الخلاقة، والسواعد الفتيَّة، والعقولُ الحكيمة، فإن ذهبَ لمستحقه كان أثرهُ إيجابياً على الوطن، وإن ذهب لغير مستحقيه أوصلَ رسالةَ إجحافٍ، وشعورٍ بالإنتقاصٍ، فلا يُلام بعدهُ مجتهدٌ تجاوزه التكريم إن تراجع اجتهاده، ولا يعاتبُ المخلصُ إن أهمله التكريم، ولا يُسخط على المتقن إن ضعف إنجازه.. فتمعَّنوا فيمن يستحقُّ التكريم حتى لا يذهبَ لغيرِ أهله!