د. حميد بن مسلم السعيدي
التعليم لا يُعاني من إشكالية تأخر طباعة الكتب وعدم استلام الطلبة للكتب حتى بداية شهر نوفمبر؛ أي في مُنتصف الفصل الدراسي الأول، فالوقت كافٍ ويُمكن استلامها في وقت لاحق ويمكن للطلبة استذكار المعلومات وحفظها قبل مواعيد الاختبارات الفصلية، فالأمر لا يُمثل تلك الخطورة التي يراها الرأي العام من هذه الإشكالية، ووفقاً لبعض الردود التي صدرت بهذا الشأن.
ما حدث من حراك في شبكات التواصل الاجتماعي وبعض المؤسسات الإعلامية التي شارك فيها العديد من الخبراء والأكاديميين للحديث عن التعليم، كلها كانت تتحدث عمّا آلت إليه حالة التعليم، في ظل عدم الاعتراف بوجود مشكلة في التعليم من قبل المؤسسة الرسمية، وهذا يمثل الإشكالية الأكبر عندما تعتقد المؤسسة أنها على الطريق الصحيح وتغفل الرأي العام الذي يرى الواقع من المصلحة الوطنية، مما يؤثر على مستقبلنا، ونحن في مرحلة ننشد فيها تطوير التعليم ليتوافق مع المرحلة الحديثة والتَّقدم الذي يشهده العالم نحو الانطلاق للثورة الصناعة الرابعة، إلا أننا نطالب اليوم بالحفاظ على نمطية التعليم السائدة والبقاء في ذات المستوى دون أي تراجع قد يُعاني منه التعليم في الوضع الحالي.
لا شك أن الأمر غير خافٍ على جميع الأوفياء في هذا الوطن، وخاصة الإشكاليات التي يعاني منها التعليم، بشكل أصبح الرأي العام يطالب بقرار رسمي لإنقاذ التعليم، طالما هناك تراكم للمشكلات دون علاجها؛ إذ أصبحت الإشكاليات تتراكم مما يُؤثر بشكل مباشر على تعليم طلابنا، ويعيق تحقيق الأهداف التربوية، في ظل وجود فاقد تعليمي نتيجة أزمة كوفيد-19، والعجز عن معالجة تلك المشكلات يُؤدي إلى فقدان قدرة التعليم على إيجاد مخرجات وفقاً للأهداف والغايات التربوية. ومن منطلق المهنية في الواجب الوطني، سوف نعرض كل تلك الإشكاليات وفقاً للإحصائيات والمؤشرات المتعلقة بالتعليم وفقاً للتسلسل الآتي:
أولاً: التعليم المسائي
قبل عام 2011 كان هناك أقل من 5 مدارس مسائية، وكانت الخطط تعمل على إلغاء تلك المدارس بشكل نهائي والتحول الكامل للتعليم الصباحي، وفقاً لخطة تطبيق التعليم الأساسي من أجل توفير بيئة التعليم المناسبة والظروف الملائمة لتلقي أبناء عمان للتعليم، وفقًا للزمن التعليمي المناسب، وبما يتيح للمعلمين القدرة على توظيف التعليم الحديث، إلا أن الأمر انعكس وخالف تلك الخطط وأدى إلى تنامي التعليم المسائي، مما أثر على جودة التعليم وقدرة المعلمين على تحقيق أهداف التعلم؛ إذ ارتفعت أعداد المدارس المسائية لتبلغ في عام 2021 حسب الإحصائيات الرسمية 54 مدرسة مسائية، وقد ارتفعت بعد إعصار شاهين لأكثر من ذلك، مما يعني مُعاناة أكثر من 108 مدارس من تقليل زمن التعلم إلى أقل من الزمن الملائم للتعليم ليصل ما بين (30- 35) دقيقة، وهذا يؤثر بشكل كبير على تحقيق الأهداف التعليمية ويعيق توظيف المعلمين لأساليب التعلم الحديثة. أضف إلى ذلك تأثيرات طقس السلطنة من ارتفاع في درجات الحرارة معظم العام، إلى جانب عدم توفر بيئة التعليم المناسبة لهذا النوع من التعليم من حيث التكييف والوجبات الغذائية، كما إن معظم الطلبة يستثمرون وقتهم فترة الصباح ويأتون فترة المساء وهم
مجهدون جسمانيًا وغير قادرين على التعلم.
ثانيًا: تأخر طباعة الكتب
الكتب الدراسية لها أهمية كبيرة في التعلم، ولا يمكن للطلبة أن يستغنوا عن هذه الكتب طالما المحتوى يركز على المعرفة بشكل أساسي، وكذلك منظومة التقويم التربوي تركز على قياس المعرفة، مما يضع الطالب أمام عقبة كبيرة في عدم قدرته على استذكار ما حدث من تعلم في الموقف الصفي، كما إنه يعيق المعلم من الاستعانة بالكتاب والأنشطة التعليمية المرفقة به، وهذا الأمر يؤثر على تحقيق الأهداف التعليمية، مع زيادة المدة الزمنية لغياب هذه الكتب واقتراب الفصل الدراسي الأول من نهايته، بجانب أنَّ التعليم المُدمج أثر على تحقيق الخطة الدراسية التي لم يتم تعديلها بما يتوافق مع هذا النوع من التعليم والذي طُبق بالطريقة غير الصحيحة؛ إذ لجأ مُعظم المعلمين إلى إعادة الدرس في الأسبوع التالي للمجموعة الثانية، وهذا ما تمَّ ملاحظته من خلال تعلم أبنائنا في المدرسة.
ثالثًا: العجز في المعلمين
يعد المعلم العنصر الأساسي في عملية التعلم، ويقع عليه العبء الأكبر في العملية التعليمية، نتيجة الجهود البدنية والعقلية التي يبذلها لتحقيق الأهداف التربوية، وبدون معلم لن يكون هناك أي نوع من التعلم. واليوم مع بداية شهر نوفمبر أي منتصف الفصل الدراسي الأول هناك العديد من الطلبة يعانون من عدم وجود معلمين لتدريس بعض المقررات الدراسية، وهذا الأمر يُشكل خطورة كبيرة على التعلم في المراحل الدراسية كافة، فكل مرحلة لها أهداف معرفية ومهارية ووجدانية تتعلق بالنمو العقلي والمعرفي للطلبة، وعدم توافر معلم يؤدي إلى إشكاليات أكثر من الفاقد التعليمي ويمثل ضغطاً على بقية المعلمين الذي يقومون بتغطية العجز دون جدوى؛ إذ لا يمكن لهم تدريس مقررات خارج تخصصاتهم العلمية.
رابعًا: ارتفاع أنصبة المعلمين
التدريس الحديث قائم على استخدام أساليب التعلم البنائية والنشطة والتي تركز على التعلم بالنشاط، والتعلم من خلال جهد الطالب في بناء المعرفة وتحليلها واستخلاص أهم مضامينها والاستفادة منها، وهذا الأمر يتطلب من المعلم بذل جهود كبيرة في عملية التخطيط والتصميم لهذه الأنشطة بما يتلاءم مع ميول الطلبة واحتياجاتهم، إلا أنَّ ارتفاع أنصبة المعلمين والتي وصلت إلى أكثر من 30 حصة، حسب ما أثاره بعض المُعلمين في شبكات التَّواصل الاجتماعي، وذلك يُوضح- بما لا يدع مجالاً للشك- أنَّ هذا المُعلم لن يتمكن من القيام بتوظيف التعليم الحديث، وسوف يلجأ في أغلب الحصص إلى التعليم التقليدي مما يُؤثر على جودة التعليم. الأمر لا يقف عند هذا الحد؛ بل إنَّ هذا الجهد سوف يتأثر تدريجيًا مع نهاية اليوم ويُصبح مستوى العطاء أقل؛ سواء نهاية اليوم أو نهاية الأسبوع.
خامسًا: الكثافة الطلابية
نجحت فنلندا في تصدر قائمة التعليم على مستوى العالم، وأحدثت نقلة نوعية في عملية التعليم وتغيير شامل في المنهجية، مما أثر على تعلم الطلبة، وخلقت البيئة التعليمية المحفزة والجاذبة للتعلم، وتمكنت من خلق ذلك الانتماء للمدرسة وحب الطلبة للتعلم، بهدف النهوض بالتعليم والارتقاء بالمستوى الاقتصادي للدولة، وهذا ما تحقق بالفعل. لكن عندما ننظر لبيئة التعلم نجد أنَّ الفارق بيننا وبينهم بعقود زمنية طويلة، فالقاعات الصفية مزدحمة بأعداد تجاوزت 42 طالبًا للحلقة الأولى، وهذا ما تمَّ ملاحظته، عندما نُشرت قوائم الطلبة في المجموعات، وهذا أكبر عائق أمام المُعلم في اكتساب الطلبة للمهارات الأساسية؛ ومنها مهارات القراءة والكتابة والرياضات ومهارات التفكير العليا، وصعوبة قدرة المعلم على متابعة الطلبة وتقديم التغذية الراجعة لهم، في حين أن العديد من الأنظمة التعليمية تؤكد على أن العدد المناسب في القاعة الصفية ما بين 20 إلى 25 طالبًا، ويتجاوز 30 طالبًا في أصعب الظروف التعليمية.
سادسًا: مستوى التعليم
عندما يتحدث الرأي العام عن التحديات الكبيرة أمام تطور التعليم فالأمر لا يأتي من فراغ، ولا يمثل ذلك تقليلاً من الجهود التي يبذلها القائمون على التعليم، لكن المُؤشرات تؤكد على ذلك؛ إذ أثبتت نتائج الدراسة الدولية (TIMSS) التي صدرت في عام 2020 المستوى الحقيقي للتعليم، فلم تتمكن منظومة التعليم من تجاوز المتوسط العام للدراسة؛ بل وظلت في المراتب الأخيرة باستثناء تغير بسيط في الترتيب حيث صعدت إلى مرتبة أعلى عن سابقاتها، مما يُعطي دلالة على أن تلك الجهود لم تؤت الثمار المأمولة، ولم تُحقق الأهداف المرجوة منها بالشكل الكافي، هذا إلى جانب العديد من المؤشرات الدولية التي نُشرت في مواقع مختلفة وصنفت مستوى التعليم، ولكن تعتبر دراسة (TIMSS) المؤشر الأكثر قربًا للواقع، وسوف نعرض هذه النتائج بشكل تفصيلي في مقال آخر.
إن تراكم هذه الإشكاليات وغيرها من المشاكل التربوية دون معالجة والتأخر بهذا الشكل يمثل خطورة على التعليم، خاصة وأنَّ التعليم مرّ بعدة صعوبات خلال السنتين الماضيتين؛ إذ تم تعليق الدراسة في بداية الفصل الدراسي الثاني من عام 2020، دون وجود خطة لمُعالجة الفاقد من تلك المعارف والمهارات والاتجاهات، ثم العودة في بداية نوفمبر 2020، والانتقال للتعليم عن بعد الذي واجه العديد من التحديات من حيث بيئة التعلم الرقمية، وتوافر الأجهزة الإلكترونية للطلبة، وعدم قدرتهم على الحصول على التعليم، إلى جانب غياب المحتوى الإلكتروني وعدم تكييف المناهج لتتلاءم مع هذا النوع من التعلم، فضلًا عن تطبيق منظومة التقويم التقليدية مما أثر على القياس الحقيقي للتعلم، ثم يأتي هذا العام الثالث منذ أزمة كوفيد-19 لتظهر إشكاليات أخرى تزيد من الأعباء والتحديات على التعليم. والسؤال المطروح الآن: إلى متى سوف يستمر وضع التعليم في هذا المستوى؟