أنا والخروف!

عبدالله الفارسي

أرسل إليّ صديق رسالة يقول فيها: اكتب لنا قصة خفيفة بدلًا من مقالاتك الإحباطية العظيمة! فقلت له: أبشر.. سأكتب لكم قصتي أنا والخروف!

أحياناً يكون للحيوان مكانة في قلب الإنسان يزرع نفسه في قلوبنا بطريقة مُفاجئة ولا إرادية يجبرنا على المرح معه والحزن لأجله والشفقة عليه.

كنَّا قد قررنا وأنا وأصدقائي الأربعة كعادتنا في نهاية كل شهر الخروج في رحلة برية؛ حيث الوادي الرملي يلتحفه الهواء، وحيث الليل تكسوه السكينة مرتدية عباءة الصمت ومرتلة تسابيح الخشوع، وحيث النسمات تدغدغ الأرواح وتعانق الافئدة، فتجبرها على عزف سيمفونية على أوتار الوادي العاشق للنسيم المغرم بالهفيف والحفيف والتغريد والهديل.

ضربنا موعدنا وحددنا تكاليف رحلتنا ونفقات طلعتنا وكل احتياجاتنا.

كانت نقطة تجمعنا كالعادة في مخرج المدينة حيث نركن سياراتنا ونستقل سيارتنا الباجيرو (موديل 97) ذات الدفع الرباعي رفيقة رحلاتنا المخلصة منذ سنوات، والتي لم تخذلنا في صخر أو واد ولم تغدر بنا في وهاد ورمال. لقد كانت أكثر وفاء من زوجة وأكثر إخلاصًا من صديق.

كان الجميع قد تواجد في نقطة التجمع في الوقت المحدد، والكل أنزل أغراضه المكلف بإحضارها.. كنا 5 أفراد، حملنا حاجياتنا في صندوق الباجيرو وعبأناه حتى التخمة، أما الخيمة وأوتادها فوضعناها فوق سلة سقف السيارة وأوثقنا رباطها كمجرم محكوم بالإعدام.

ركبتُ في المقعد الخلفي كعادتي فأنا من عشاق المقاعد الخلفية ولا استسيغ أن أنغرس أمام الجميع.

تحركت سيارتنا، وفوجئت بشيء في الخلف يلعق رقبتي ويسحب طرف عمامتي .. فالتفت فإذا بخروف جميل أبيض ينظر إليَّ وكأنه يعرفني منذ زمن طويل. خيل إليَّ بأنه كان يبتسم لي!

لم أتوقع وجود خروف في صندوق السيارة ولم ألحظه أثناء تحميل الأغراض، فنحن نادرًا ما نشتري خروفًا ونحمله معنا حيًا؛ حيث غالباً نشتري بعض كيلوجرامات من اللحم أو دجاجًا مثلجًا.

أهملته ولم أكترث بما يفعله في الخلف وأخذت اتبادل الكلمات وأمضغ النكات مع رفاقي. لكن الخروف كان مكترثًا بي مهتمًا بوجودي، فأخذ يعبث برقبتي ويسحب بفمه أطراف عمامتي.

ظل الخروف طوال الطريق على هذه الحال رغم أن أمامه ثلاثة رؤوس كبيرة، إلا أنه ترك الرأسين الأكبر حجماً وركز جل اهتمامه على رأسي أنا الرأس المليء بالوساوس والأفكار والغيوم!!

وصلنا إلى مكان التخييم، وأنزلنا أغراضنا وغرسنا أوتاد خيمتنا ووزعنا مهامنا وأوقدنا نارنا، وظل الخروف بمعيتي يمشي حيث أمشي ويجلس حيث أجلس لاصقاً فروه بجلدي. تارة يقفز فوقي ويلاحقني وتارة يمضغ إزاري ويناطحني. حتى حين ابتعد بعيدًا خلف الأكمات ووراء الصخرات للتخلص من الماء المتكدس في مثانتي كان يُرافقني.

سبحان الله.. ما حكاية هذا الخروف الغريب؟!

هل كنَّا روحًا واحدة في عالم السرمد، انقسمت إلى روحين؟! هل روح الحيوان وروح الإنسان روحان متماثلتان متناغمتان؟ أم أن أرواحنا مختلفة متباينة ومتنافرة؟ لست أدري!

لا يُمكن أن تكون هذه المودة التي يمارسها معي هذا الخروف المسكين مودة عادية، حتمًا هناك لغز عميق وسر غامض في روحه.  حتماً هناك أسرار عميقة في طبيعته.

كان الشباب قد قرروا ذبح الخروف في الصباح؛ لذلك قضى الخروف كل المساء بصحبتي كان يجلس حيث أجلس، ويمشي حيث أمشي؛ إذ لم يفكر أحدهم في ربطه طوال الليل لأنهم تأكدوا أنه لا يمكن أن يبتعد عني.

كان سلوك الخروف سلوكًا غريبًا وعجيبًا، فسبب لي توترًا وتفكيرًا. ثم نمنا ليلتنا تلك نومة هانئة ونام الخروف بجانبي ملتصقاً بي مزاحمًا لي في فراشي.

تنفس الفجر، وأشرقت الأرض بضياء الشمس الذي عانق المكان باعثًا الدفء والحياة في العظام والأرواح.

رأيتُ أحد الشباب يسن السكين ويشحذها على قطعة حجر صماء؛ فباغتني حزن كثيف واقتحمني غم ثقيل.

هل حانت نهاية صديقي الخروف الجميل المسكين؟! لم احتمل رؤية السكين، فكيف سأحتمل رؤيته وهو تقطع رقبته ويفصل رأسه عن جسده.

كان من المقرر أن أكون مشاركًا في عملية الذبح ولكنني اعتذرت واعترضت ورجوتهم عدم ذبحه، اعترضت بشدة وعرضت عليهم ثمنه كاملا وزيادة! لكنهم رفضوا.

مسكه أحدهم من فروه الكثيف وسحبه إلى ظل شجرة قريبة، وتبعه آخر يحمل سكين الموت اللامعة وأداة الموت القاصمة. فلم أتمالك نفسي فقفزت عليهم كطرزان الغابة وانتزعت الخروف من أيديهما، اعترضت على ذبح صديقي الخروف اعتراضًا كليًا، وحاولت منعهم بالقوة، وطبعاً لأنني كنت اضخمهم جسمًا، ابتعدوا عني وعن خروفي الذي رأيته يبتسم لي مُعجبًا بقراري مزهوًا بعنادي.

لكن الشباب استطاعوا الإمساك بالخروف، فقد هجموا عليّ كلهم أربعتهم ومسكوني وأوثقوني بالحبال وربطوني في الشجرة القريبة من الخيمة، حتى انتهوا من ذبح الخروف وسلخه وتقطيعه. ثم فكوا قيدي وأطلقوا سراحي!

عدتُ أدراجي إلى المكان، وقد كان الخروف تحول إلى أجزاء من اللحم والعظم والشحم مكدسة في وعاء بلاستيكي كبير. لم انتبه للرأس والذي ترك في مكانه كما هو. ولكنني فجأة التفت إلى المكان .. فأمعنت النظر في رأس الخروف رأيت عينيه الجميلتين مفتوحتين باتساعهما، وكأنه ينظر إليَّ يعاتبني ويلومني ويوبخني، ركزت على عينيه، كان في عينيه عذاب ودموع وعتاب وصراخ ونحيب.

اقتربتُ من الرأس فتهيأ لي أن شفتيه تتحركان وكأنه كان يتمتم بكلمات فوضعت إحدى أذني على فمه، فخُيِّل إليَّ أنني سمعته يهمس في أذني بوضوح ويقول: "هذه نهاية كل خروف في هذا العالم.. كل خرفان العالم هذه نهايتهم يا صديقي!".