نَفْتَخِرُ بعمانيَّتِنا

 

د. صالح الفهدي

المشاهد الملحميَّة التي أعقبت إعصار "شاهين" هي مبعثُ فخرٍ لنا جميعاً بعمانيَّتنا؛ لأنها برهنت على أنَّ العمانيين وإنْ تفاوتتَ أعمارهم، وثقافاتهم، ومراتبهم، ومستوياتهم المعيشية هم أُسرةٌ واحدةٌ، إذ لم يهنأ لعماني في أقصى ظفار أو مسندمَ أن ينام وأهله المتضررون من الإعصارِ في هَمٍّ وأًسىً مما وقعَ عليهم من البلاء.

ولو لم يكن من نعمة خلَّفها الإِعصار عدا عن التلاحم الوطني العظيم لقلتُ كفى ذلك من نعمةٍ لا تساويها أثمان؛ فقد تركَ العمانيون كلَّ مشاغلهم، وتخلَّوا عن التزاماتهم، وتداعوا من كلِّ مكانٍ ليهبُّوا من أجلِ نجدةِ أهلهم، في ظرفٍ لا تزالُ جائحة كورونا جاثمةً فيه، ولا تزال المعاناة الإقتصادية تثقلُ الوطأ على عمومِ الناس والمؤسسات.

ما شهدناه من صور الملحمة الوطنية يستحقُّ أن يوثَّق في أعمالٍ فنيَّةٍ لا أخالُ الأُدباء والفنانون قد تغافلوا عنها، فهي مرحلةٌ لا تؤرِّخ لإعصار فقط، وإنَّما تؤرِّخُ لملحمةٍ تاريخيَّةٍ كان الوطنُ بكلِّ مكوِّناته، وفئاته، ومؤسَّساته بطلاً فيها، الكلُّ يسهم بما يستطيعُ، وبما مكَّنه الله من قدرات، وحباهُ من ملكات؛ فهذا يقدِّم المال، وآخر  يقومُ بإزاحةِ الطمي من البيوت، وثالث يتبرعُ بالمؤونة، ورابعٌ يتبرعُ بالأدوات الكهربائية، وخامسٌ يُصلحُ المركبات، وسادسٌ يعزِّزُ المعنويات والقائمةُ تطول وتطول.

إن البطولات في حياةِ الأُمم لا تصنعها الإنتصارات في الحروبِ وحسب بل هي بطولاتُ المواقفِ التي تظهرُ فيها الأُمةُ قدراً عالياً من التلاحم والتضحيات. هكذا كان الشَّعبُ العماني متفوِّقاً على كلِّ ظرفٍ، ومتجاوزاً كلَّ الصعاب من أجل أن يصونَ عزَّةَ وكرامة وطنه.

لقد كان الضررُ مهولاً، والدَّمارُ كارثياً إنَّما خفَّفَت من آثارهِ اللمَّة الوطنية، والإلتفاف الشعبي والحكومي السريع، فما كاد الإِعصارُ أن يسحبَ أذياله حتى تنادى أبناءُ الوطنِ من أقصى ركنٍ فيهِ إلى أدناه، ومن كلِّ الجهات، لم يطلب منهم أحدٌ كي يهبُّوا، ولم يدعهم أحدٌ كي يشمروا عن سواعدهم حتى تجمَّعَ في البيتِ الواحد العشرات من الأفراد لا يعرفُ الواحد منهم الآخر، كلٌّ جاءَ من منطقةٍ ما، إنما كانوا يعرفون أنفسهم بأنهم عمانيون، وأنهم أبناء أُسرةٍ واحدةٍ وكفى.

هكذا يُثبتُ المجتمعُ أنَّهُ جديرٌ بمعنى الترابطِ والتعاضد كالجسدِ إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرٌ الجسدِ بالسَّهرِ والحمَّى.

مجتمعٌ كالمجتمع العماني يشعرُ بالإباءِ والعزَّة والشهامة والفزعة هو مجتمعٌ حيَّ، ينبضُ بالمعاني السليمة التي تحقق شرط وجوده.

مجتمعٌ كالمجتمع العماني تستفزَّهُ المواقفُ التي تتطلَّبُ اللحمة والتكاتف هو مجتمعٌ قوي الشكيمة، عظيمُ الترابط، يُبرهنُ على أنَّ الملمَّات والمحن لا تزيدهُ إلاَّ تقارباً، وتعاضداً، ولُحمة.

مجتمعٌ كالمجتمع العماني يستنفرُ قواهُ من أجلِ أن يهوِّنَ وقْعَ الخطب على أهلهِ، ويواسيهم في البلاء، ويقفُ إلى جوارهم في النوائب، ويقوم بواجبه نحو مساعدتهم هو مجتمعٌ صلبُ القواعد، عتيِّ الأَركان.

وبعدَ ذلك وقبله، يحقُّ لنا أن نفتخرَ بعمانيَّتنا، ونحنُ كذلك، إلاَّ أننَّا نؤكدِّ على الإفتخار، فالملحمة الوطنية الإنسانية هي عنوانُ وفاء عميق للوطن، وميدانُ تضحياتٍ لا يمكنُ أن تقدَّر قيمتها.

نفتخرُ بعمانيَّتنا لأننا أثبتنا أنَّ الهوية العمانية حيَّةَ الخلايا، دفَّاقةَ الدماءِ، ريَّانة الشرايين، والهُوية هي أعظم ما يفتخرُ بها مواطنٌ محبٌّ لوطنهِ لأنها الحصنُ الحصين، والدرعُ المتين.

نفتخرُ بعمانيَّتنا لأننا لا نتركُ للجراحِ من أثرٍ، ولا نُسمعُ للألمِ من آهةٍ، ولا نظهرُ للأسى من ملامح، فلا يُرى فينا غير ملامح الرضا بالقدر، ولا يُسمع منَّا غير التسليم بالقضاء، ولا يعلو منَّا غير حمدِ الله على بلائه، والخير بما قضى به.

هكذا كنَّا، وهكذا سنبقى ما شاء الله لنا ذلك، وما شئنا لأنفسنا أن نكونُ عليه وطناً حيَّاً بإنسانهِ، قبل أن يكون عالياً ببنيانه، مفتخراً بإنسانيتهِ وعواطفهِ وقيمه التي تختزلُ الفخرَ بعمانيَّتهِ، وبهذا الروح التي تسكنُ جوانحنا نكون نحنُ عُمانَ قبل الأرض، ونكون نحن الوطن قبل الحدود والتراب والجوازِ والنشيدِ والعَلَم.