في كل مولد نبوي أتعلمُ درسًا جديدًا

 

عائشة السريحية

الوطن.. يا له من مصطلح عميق لن أخوض في تعريفه اللفظي واللغوي، لكننا سنبحر معاً في عمق المعنى، سنتجول قليلا في التاريخ والسيرة، سنعيد النظر إلى الوراء حيث يكون لنا في الاستدلال مجال.

ولد طفل في منزل بمكة، لم تكن صرخته الأولى تعني الخشية من الحياة، بل كانت صرخته الأولى تُعلن عن تغيير العالم، سنواته الأولى يسمع عن أبيه ولكنه افتقد رؤية وجهه، طفل مُبارك يضحك ويلعب مع أقرانه، طفل جميل المحيا رقيق الطبع، أحبه كل من رآه.

وما أن وجد للبسمة معنى في حضن أمه، أو المرح واللعب في حي مرضعته وأقرانه، حتى فقدها، وفقد معها الأم الحنون، والحضن الدافئ، أكاد أستشعر حزنه ودمعته الصامتة، وأكاد أشعر بتلك القبضة الصغيرة التي تمسح الدمع ببراءة، لم يجد حضناً يحتويه أحنُّ عليه من جده، فمنحه وقتاً وجعل له مكانة، فعوضه عمَّا فقده، واستمر الموت بأخذ أرواح من كانوا يعتنون به، فتوفي جده عبدالمطلب وهو ابن ثماني سنوات كما ذكر ابن القيم.

كانت سنواته الأولى في رحم المُعاناة، لأن قدر الله أن يكون له دربة فيها فيستشعر الآلام ويعوض طعم المرارة قبل الرسالة ألم الفقد وألم المُعاناة وألم الفقر والحاجة واليتم.

لم يكن ذلك الأمر إلا لإعداد إلهي، وتربية تصقل روحه الطاهرة ليتحمل أمانة الرسالة السماوية، فلا يشعر بآلام الغير إلا من تذوقها، وبعد البعثة وقبل ما يزيد على ألف وأربعمائة عام كان محمدا عليه الصلاة والسلام في أحد شعاب مكة شعب بني هاشم، يُعاني من الجوع والعطش بسبب الحصار الذي فرضه عليه قومه، لايملك من الأمر سوى صدق رسالته وإيمانه بمن بعثه، وإيمان من حوله به فقد خذله الأقربون قبل غيرهم، لكن رجلاً نشأ يتحدى الصعاب ويواجه صنوف القهر بالصبر والثبات، لا يمكن أن يستسلم بسهولة.

قال ابن القيم في "زاد المعاد": "لما رأت قريش أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلو والأمور تتزايد أجمعوا أن يتعاقدوا على بني هاشم وبني المطلب وبني عبد مناف ألا يبايعوهم ولا يناكحوهم ولا يكلموهم ولا يجالسوهم حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتبوا بذلك صحيفة وعلقوها في سقف الكعبة... فانحازت بنو هاشم وبنو المطلب مؤمنهم وكافرهم؛ إلا أبا لهب فإنِّه ظاهر قريشاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبني هاشم وبني المطلب، وحبس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه في شعب أبي طالب ليلة هلال المحرم سنة سبع من البعثة، وبقوا محصورين مضيقاً عليهم جداً مقطوعاً عنهم الميرة والمادة نحو ثلاث سنين حتى بلغ بهم الجهد".

وحين حان الأجل للتغيير وجاءه الأمر السماوي، هاجر عليه الصلاة والسلام ليثرب، لتُصبح بعد ذلك المدينة المنورة، وبدأت الرسالة تنحى منحى القوة فيكثر الأتباع وتقوى الدولة، ويصبح محمد رسول الله رجلا يخشاه قومه، وتأتيه أفواج الناس فرحين ومستبشرين، رجل التغيير والوعد السماوي، وتفرق أهل مكة ما بين مُؤمن وما بين متشبث بالعهد الوثني، إلى أن جاء فتح مكة.

مكة .. أطهر بقاع الأرض، مسقط رأسه عليه الصلاة والسلام، مكان لعبه ولهوه وهو طفل صغير، مكان شبابه ورعيه لأغنامه وهو شاب يافع، مكان زواجه الأول بخديجة بنت خويلد، مكان تلقيه الوحي والبعثة والرسالة، مكان الكعبة المشرفة والحجر الأسود، مكان جده وعمه، مكان رفاقه وصحابته، وحين دخلها فاتحاً، دخلها متواضعاً، أزال عنها رجس الجاهلية، وأحيا فيها التكبير والوحدانية، لكنه لم يرغب في الاستقرار فيها، لقد آثر العودة للمدينة، فقد أمست هي الوطن، فتلك المواقف للنصرة حين خذله الأقربون، تلك الأيادي التي امتدت بصدق في البيعة الأولى والثانية، ذلك الاستقبال ومشاركة المسكن والأرض والأموال، وذلك الإيمان العميق والاحتواء الذي قوبل به نبي الإسلام بل وقوبل به المهاجرون، جعل محمدا عليه الصلاة والسلام يختار العودة للمدينة لتكون الوطن الذي رغب في أن يكمل به مسيرة حياته وثبت ذلك حين قال:" لَوْ أَنَّ الأَنْصَارَ سَلَكُوا وَادِيًا أَوْ شِعْبًا، لَسَلَكْتُ فِي وَادِي الأَنْصَارِ، وَلَوْلاَ الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الأَنْصَارِ."

وعاد للمدينة المنورة حبا ورغبة وانتماء للمكان الذي قوبل فيه بالحب والنصرة، أصبح وطنه وهو رسول الله للعالم أجمع، ومن هناك انطلقت معالم التغيير نحو العالم التغيير الإيجابي والقيادة الواحدة، ورسم خطوط العدل والمساواة ووضع منهاجا ربانيا، لا يضاهيه أي تعريف بشري أو دنيوي، فبنيت دولة الإسلام وأعيد ترتيب ملامح البشرية على هذه الأرض من جديد.

الوطن..هو أعظم من مجرد كلمة، أو شعار أو عبارة رنانة، إنه ولاء يسكن الروح وأنفاس يحيا بها الجسد.

فالعلاقة ليست فقط مكانة أو علاقة اجتماعية تقوم بين فرد طبيعي ومجتمع سياسي (دولة)، ومن خلال هذه العلاقة يقدم الطرف الأول الولاء، ويتولى الطرف الثاني الحماية، وتتحدد هذه العلاقة بين الفرد والدولة عن طريق القانون.

بل هي أشمل وأعمق، هي ولاء روحي قبل أن يكون جسديا، فلا يكفي الفرد فيها حصوله على وثيقة تثبت هذه العلاقة فيحدد فيها جنسيته وإثبات مواطنته وحقوقه وواجباته.

فمن حيث المبدأ كل شخص يحمل أوراقا رسمية تثبت حمله وانتماءه لدولة معينة وولاءه لها فهو مواطن.

فهل كل المواطنين مستحقين لهذا التعريف؟

بالطبع لا فهناك من يسيء للوطن ومن ينخر فيه ومن يحاول هدمه وتكسير أساسه، سواء كان ذلك بفعل صريح أو بأفكار مدسوسة، أو بانتماءات خارجية وولاءات أخرى، لا تجعل له نصيبا من الوطنية سوى الورق الذي يحمله.

الوطن هو الانتماء الحقيقي وهو المكان الذي يحتويك ويمنحك الأمان الذي تحتاجه، وهو البيئة التي تعيش فيها وهو الهواء الذي تتنفسه والحماية التي تنعم بها في ظل دولة وقيادة سياسية رشيدة، فلا مجال للمزايدة بالوطنية فالكل في المواطنة متساوون يشذ منهم من يسيء لوطنه بسلوك أو فعل خارج عن طبيعة العلاقة بين المواطن ووطنه والولاء له.

وقد لا تكون الإساءة بالسلوك الخاطىء الممنهج أو الفكر الدخيل أو الولاءات الخارجية، ولكنه قد يأتي بالتشدق بالوطنية الزائدة والاتهامات للغير بأنهم أقل وطنية منهم.