فوزي عمار
عربيًا سُمي العالم عالِمًا لأنه علم بالشيء؛ لذلك عندما علم نيوتن بالجذابية وهو يجلس تحت شجرة التُّفاح في جامعة كامبردج لم يخترع الجاذبية؛ بل كانت موجودة من قبله لكنه عَلم بها فسُمي عالمًا. تم تطور العلم ليصبح داخل المعمل والتجربة الملموسة وسمي بالابستيمولوجية، وهي فلسفة العلوم أو علم المعرفة، ويعتقد أن أول من أوجد هذا المصطلح هو الفيلسوف الأسكتلندي جيمس فريدريك فيرير، وينقسم إلى عدة أقسام وهي الفلسفة الوضعية، أما الفلسفة التفسيرية أو الفينومونولوجيا، هي فلسفة تعتمد على الشرح، وتنادي الفلسفة الواقعية بمبدأ العلية؛ أي أن لكل ظاهرة علة وسبب.
فالعلم التجريبي يشرح سبب غليان الماء وتجلط الدم مثلاً، وكل الأمور القابلة للرصد والتجربة، بينما لا يبحث العلم سبب احتياج المعلول لعلته، فالتجربة لا تقطع بجوهر العلية. غير أن الخطأ الشائع هو أن عكس العلم هو الجهل وهذا ليس دقيقاً فعكس العلم ليس الجهل، بل قد تكون معرفة أخرى وعلم آخر لا تنتج داخل المعمل وليس لها علاقة بالعلم التجريبي، فمثلاً المعرفة الدينية والتي يطلق عليها "العرفان"، هي إحدى المناهج المتبعة للتواصل مع الخالق. والعرفان لغة: من عرف، يقال عارف بالله، أي مُتحقق بمعرفته ذوقا وكشفا، وهي المعرفة اللدنية، أي التي تكون من لدن الله.
يقول المفكر محمد عابد الجابري يبدو أن العرفان نظام معرفي، ومنهج في اكتساب المعرفة ورؤية العالم اندمج في الثقافة العربية الإسلامية من الثقافات التي كانت سائدة قبل الإسلام في الشرق الأدنى، يسمى الغنوص Gnose، وهذه الأخيرة يونانية الأصل وتعني المعرفة أيضًا وقد انصرف معناها إلى العلم والحكمة، ولكن ما يميز العرفان أنه يغطي الجوانب الدينية وهي معرفة الغيب والأخرى التي قد تتجاوز إلمام المؤمنين البسطاء وأشمل من معرفة العلماء الذين يعتمدون على النظر العقلي.
يتبنى مصطلح العرفان مفهوم (الجعل)، كما في قوله تعالى: "أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون" كما ثمة فرق بين الإيمان بالله والإيمان بالعلم. فالعرفان والمعرفة يقودان إلى الإيمان بالله كما عند المؤمن أو بالقوة الخارقة كما عبر عنها الفيلسوف كانط.. لذلك واضح أنه لدينا نوعين من المعرفة وهي المعرفة العلمية والمعرفة الدينية. المعرفة والعرفان.. المعرفة التي نشاهدها ونلمسها والعرفان وهو الغيبيات. ولذلك وصف الله نفسه بعالم الغيب والشهادة.
ويعد الاجتهاد أساسا مهما لفهم النص خاصة بما يُوازي متطلبات العصر والتغيرات في الزمكان (الزمان والمكان). فالنص ثابت ولكن الخطاب الديني الذي يعتبر فهم الناس للنص لابد أن يكون متغيرا خاصة في المعاملات. ولكن ومع تزامن الاجتهاد نشأ الخلاف الفكري عند المسلمين في العديد من القضايا الفكرية وفي أغلبها خلاف فقهي وليس عقدي إلا في مواضع قليلة.
لقد اعتمد الفكر الإسلامي على علوم ابتكارها في هذا المجال ومنها علم الجرح والتعديل بالإضافة إلى التلاقح مع الفلسفة الإغريقية التي أخذها العرب المسلمون بعد فتح مصر تحديدا والاندماج مع مدرسة الإسكندرية الإغريقية.. علم الجرح والتعديل الذي نشأ في صدر الإسلام لدراسة علم الرواية.. رواية الأحاديث الشريفة والتحقق منها منهجياً وعلمياً. ومع ذلك نشأ العديد من الفرق والاختلافات في ما بينها وهذه بعض الانقسامات التي رصدها لنا المؤرخون العرب والإسلاميون. وأشهرها الخلاف الكبير بين الغزالي وابن رشد في مبدأ العقل والنقل المعروف:
(1) كان الخلاف بين المعتزلة والأشاعرة في الظنيات لا في القطعيات، في المتشابهات لا في المحكمات. في الفروع ليس في الثوابت والعقيدة.. من باب: هل الله أمر بالخير لأنه خير ونهى عن الشر لأنه شر؟ أم أن الخير خير لأن الله أمر به والشر شر لأن الله نهى عنه؟ تبنى المعتزلة الرأي الأول والأشاعرة الرأي الثاني.
(2) اختلف الفقهاء في قضايا ومن أهمها قِدَم العالم وانقسموا بين من يقول إنَّ العالم قديم ومن يقول إن العالم مُحدث.. الغريب أن فقيه مثل ابن تيمية الذي أسس إلى النقل على العقل قد انحاز للفلاسفة، وقال بقدم العالم مثلهم، مما يجعله يقف في صف من كفّرهم وجاء الدور عليه ليُكفَّر هو نفسه أيضًا من قِبَل من كانوا أنصاره.. وأجمل وصف قرأته في موضوع قدم العالم أو إحداثه.. هو أن الله أوجد الأشياء من عدم وأعدم العدم فأصبح العدم وجودًا.
(3) قضية أخرى اختلف الفقهاء فيها وهي الزمان والمكان، وهل المكان ثابت أم متحرك؟ فالبرغم أن الفيلسوف الصوفي أبو حامد الغزالي قد انتصر على فلاسقة العقل مثل ابن رشد.. إلا أنَّ رأيه في أن المكان متحرك وليس ثابت قد أثبتته التجربة العلمية (الامبريقية) وقال المتكلم الغزالي إن بعد الزمان وبعد المكان لا يمكن الفصل بينهما ولا معنى للزمان بدون المكان.. وقال إن العالم مُحدَث، ومن خلق الله وليس قديم وبرهن على ذلك بأن نتفق على أنه إذا كان الزمان دال في الحركة، فإن الكون متحرك وليس ثابتا.. وهذا ما أكده العلم الآن وتم قياس عمر الكون بأنه يقترب من 14 مليار سنة، وتحديدًا 13.7 مليار سنة وأن الكون يتمدد وليس ثابتًا.
العجيب أن القرآن وصف الزمان بأنه علاقة لمنظومتنا الشمسية حين قال تعالى في محكم كتابه: (وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍۢ مِّمَّا تَعُدُّونَ)، وفي مقام آخر: (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ).. وهو وصف دقيق فالسنة لها علاقة بدوران الأرض حول الشمس؛ ولأي قياس خارج المنظومة الشمسية لا تعني السنة شيئًا. وهذا ما شرحه آينشتاين في نظرية النسبية وفشل فيه نيوتن. قال تعالى: "الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ".
(4) اشتغل مفكرون إسلاميون بالعلوم وقادوا الأمة إلى مشروع نهضة حقيقي بدأ بمشروع حداثة؛ فالحداثة مثلا التي وضع لها هيغل مفهوما واضحا حيث بدأ تعريفه لها أنها ظهرت مع عصر التنوير والعصور التي تشكل تجددا مستمرا وحركة نهوض وتطوير وإبداع هدفها تغيير أنماط التفكير والعمل والسلوك وهي حركة تنويرية عقلانية مستمرة هدفها تبديل النظرة الجامدة للكون والحياة والأشياء إلى نظرة أكثر تفاؤلا وحيوية وهذا ما فعله مفكرون إسلاميون استغلوا الاجتهاد المستمر الذي يجعل الإسلام صالحاً لكل زمان ومكان.. فلقد وضع عصر النهضة الإسلامي أول أسس مشروع تحديث وتنوير وتطوير اجتماعي واقتصادي وثقافي شامل بدأ من القرن التاسع وحتى الثالث عشر الميلادي حدثت نهضة فكرية اجتماعية قادها مفكرون مسلمون مثل الفارابي وابن رشد وابن ماجة والتوحيدي وابن مسكوية وابن سينا وغيرهم. كان العرب والمسلمون يشكلون مرجعية ثقافية لمفكري أوروبا حتى عصر النهضة فقد تأثر الأوربيون بالمفكرين والفلاسفة العرب والمسلمين خصوصًا الفارابي وابن سينا وابن رشد وحتى الكندي.. فقد جسد هؤلاء انفتاحا على العلوم الدنيوية العقلانية فكانوا يجمعون بين علوم القرآن والفلسفة من دون الشعور بالحرج مكنهم ذلك من القدرة على التطور والإبداع.
جانب آخر مهم شاب الخلاف الفقهي منذ بدايات الإسلام خاصة في نهاية العهد الراشدي وهو الخلاف السياسي. فاجتماع السلطتين الدينية والسياسية في رجل واحد كان سمة عصر النبوة والرسول محمد سيد الخلق حيث جمع بين السلطة الزمنية والسلطة الدينية وانتهى بوفاته وبانقطاع الوحي، فلا مجال لأحد بعد الرسول أن يساوي نفسه به صلى الله عليه وسلم، وعاش الإسلام كطريقة عيش تجمع الدين مع المشروع السياسي فترة بسيطة وهي فترة النبوة وفترة الخلافة الراشدة، قال عنها سيد الخلق سيأتي بعدها ملك عضوض.
وما سيأتي بعد ذلك سواء في العصر الأموي أو العباسي أو حتي العصر الحالي ما هو إلا إضفاء الدين على السياسة وإطلاق المقدس وهو الدين على الحاكم ووصف كل من يعارضه بالمدنس وهنا تكمن الخطورة، وكما يقول أحد دعاة الإسلام السياسي اليوم الشيخ راشد الغنوشي الإخواني التونسي المعروف حين قال: "إن أشد أنواع الطغيان هو ما سيأتي باسم المقدسات وإضفاء صفة المُقدس".
واستعمال الدين في السياسة (الإسلام السياسي) تاريخيًا جاء بصفتين إما الطرح الأيديولوجي للخطاب الديني مثل جماعات الإسلام السياسي حاليا وأشهرها جماعة الإخوان المسلمين أو استعمال العرق والنسل الشريف مستندين على حديث صحيح لرسول الله صلى الله عليه وسلم رواه أحمد يقول فيه: "الأئمة من قريش".
هنا أيضاً الإشكالية في توظيف الدين لمصلحة السلطة والحكم باسم الدين بدلاً من الحكم بالشورى وبالعدل باعتباره أساس الحكم إن الخلاف مع هؤلاء يعتبر مثل الخلاف مع الدين نفسه.
ويعتمد النظام السياسي في الإسلام (السياسة الإسلامية) التي تتمثل في التشريعات الفقهية المستمدة من النص القرآني وسنة سيد الخلق وانتقالا لكتابات بعض الفقهاء الذين كتبوا في الإسلام السياسي أو نظرية الحكم الإسلامي كالماوردي في كتابه "الأحكام السلطانية" وابن تيمية في كتابه "السياسة الشرعية" وابن الجوزي والغزالي وغيرهم من المحدثين، فكلهم لا يخرجون عن القاعدتين الأساسيتين لنظرية الحكم الإسلامي وهما مبدأ العدالة والشورى، والذي تنص عليه مُعظم الدساتير الحديثة اليوم ولكن في التطبيق الواقعي لم نصل إلى ذلك لعدة أسباب باتت أقوى من التشريع وهو التفسير الخاطئ للدين من ناحية وكذلك التعصب الديني داخل المنظومة الدينية نفسها.
فمبدأ العدالة يعني تطبيق قول الرسول "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"، والعدالة تعني التوزيع العادل للثروة والمساواة أمام القانون في كل شيء بين الحاكم والمحكوم وهو مبدأ دستوري. والثاني هو مبدأ الشورى والذي يقوم على قاعدة المشاركة في القرار السياسي وتوزيع الثروة والتي تعتبر معضلة اليوم لمعظم الدول العربية والإسلامية.
ومن هنا نخلص إلى أنَّ التشريع الإسلامي لم ينص على أي نظام حكم بعينه؛ فرديا أم ديمقراطيا، ملكيا أو آية الله أو جمهوريا أو خلافة، فالأهم هو الحرص والتأكيد على هذين المعيارين الديمقراطيين اللذين يضمنان الحقوق والواجبات؛ وهما: العدالة والشورى.