د. محمد بن عوض المشيخي **
سطّر الشعب العُماني طوال الأيام العشرة الماضية ملحمة بطولية نادرة تتمثل في إغاثة أبناء الباطنة وتقديم العون والمساعدة لهم، وذلك لإزالة المخلفات وتنظيف الشوارع والمنازل المتضررة من إعصار "شاهين" الذي حول العديد من الولايات كالسويق والخابورة والمصنعة إلى أطلال.
لقد زحف عشرات الآلاف من المواطنين من مختلف أرجاء هذا الوطن الحبيب إلى السويق الولاية التي تدمر الكثير من منازلها وشوارعها ومعظم البنى الأساسية فيها، ثم واصل هؤلاء المتطوعون طريقهم لنجدة الولايات المجاورة التي ضربها الإعصار تباعًا. ومن المفارقات العجيبة أنَّ البسطاء من عامة الناس هم الذين سبقوا بمالهم وسواعدهم ومعداتهم والتي ساعدت بشكل فوري وسريع على تخفيف معاناة الأهالي في المناطق المنكوبة؛ متقدمين بذلك كبار التجار في هذا البلد. وتأتي هذه الملحمة الوطنية العمانية وسط الأزمة الاقتصادية وجائحة كورونا التي حاصرت الجميع طوال العشرين شهر الماضية وجمدت معظم الأنشطة الاقتصادية في البلاد.
لا شك أن النماذج الرائعة للمتطوعين- خاصة كبار السن الذين تقاسموا مع المتضررين قوتهم اليومي وحضروا بأنفسهم من ظفار ومسندم والداخلية والشرقية والظاهرة ومسقط للمشاركة في تعمير الباطنة- قد سجلوا بأحرف من نور تاريخًا جديدًا يُضاف إلى ملاحم وبطولات هذا الشعب الذي أثبت للعالم أنه يتميز بصبره وشجاعته وتآزره عن جميع الشعوب في هذا الكوكب. ولعل ما تم نشره عبر وسائل الإعلام الإقليمية، وما تم وتداوله على نطاق واسع من وسوم على منصة تويتر من رواد التواصل الاجتماعي في الخليج والجزيرة العربية حول تضامن العمانيين واعتمادهم على أنفسهم في هذه الكارثة، خير دليل على تميز هذا الشعب. فقد تمنى العديد من المغردين العرب الذين تنتشر في بلدانهم المجاعات وتتراكم في شوارعهم المخلفات وتعاني مدنهم من الخراب؛ أن يكونوا في تعاضدهم مع بعض ومواجهتهم للتحديات والكوارث مثل العمانيين.
إن تاريخ الثامن من أكتوبر 2021، يوم مفصلي في تاريخ العمل التطوعي في السلطنة، فقد تكاتفت في هذا اليوم المبارك السواعد والأيادي والجهود الوطنية من الجهات العسكرية والأمنية والوزارات المعنية بالأنواء المناخية والحالات الطارئة، وأفراد المجتمع المدني من مختلف الجمعيات الأهلية والفرق التطوعية والأفراد العاديين؛ مشكلين في ذلك لوحة عمانية رائعة في ميادين العمل الوطني للتخفيف عن المتضررين من أبناء محافظتي الباطنة شمال وجنوب وموازرتهم في هذه المحنة.
وفي وسط هذه الأجواء الوطنية غير المسبوقة جاء الخطاب السامي لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- معبّرًا وشاملًا ومختصرًا ويحمل معانٍ وطنية، بكلماته وإشارته للأنواء المناخية وإعصار شاهين، فقد وضع النقاط على الحروف حول معالجة آثار الإعصار والعمل بأسرع وقت ممكن لإعادة الأوضاع إلى ما قبل هذه الحالة المدارية. والأنظار الآن تتجه إلى اللجنة الوزارية التي سبق أن أمر بتشكيلها جلالة السلطان في مرحلة مبكرة من وقوع الإعصار ويترأسها وزير المالية وعضوية العديد من كبار والمسؤولين الذين لهم علاقة مباشرة بجهود معالجة الأضرار، خاصة في مجالي الإغاثة والإيواء؛ حيث باشرت اللجنة المكلفة اجتماعاتها في الميدان وتحديدًا في ولاية السويق، وذلك لتقييم وحصر الأضرار ومعالجتها بأسرع وقت ممكن، وتقديم العون للسكان في تلك المدن بشكل عاجل.
إن كلمات الخطاب السامي التي لامست قلوب المواطنين وعقولهم لجديرة بالثناء والتقدير والاحترام؛ فقد أشاد جلالته بالملحمة الوطنية التي سطّرها أبناء عُمان الأوفياء بثباتهم وصبرهم وتماسكهم وتعاضدهم في مثل هذه المواقف الصعبة. من هنا أتى هذا الثناء السلطاني للمتطوعين والمشاركين في إعادة إعمار هذه الولايات الغالية على كل مواطن ينتمي لهذا التراب المقدس، ولا شك أن هذا الثناء يُعد وسامًا رفيعًا على صدور هؤلاء الرجال والنساء المتفانين بعملهم في هذه الملحمة الوطنية، بما يملكون من مال ومعدات وأجهزة. كما إن هذا الخطاب أتى ليُعزز الجهود الجبارة من كل الجهات المشاركة في هذا العمل الوطني النبيل وينقل العمل التطوعي نقلة نوعية خلال الأيام القادمة بعون الله، وذلك بتضافر وتكاتف الجميع لخدمة عمان. والأوامر السامية بإنشاء صندوق وطني للحالات الطارئة، سوف يسهل عمليات الإغاثة والأيواء والإعمار في حالة الباطنة حاليا؛ وكذلك في المستقبل لكون السلطنة أصبحت تتعرض بشكل مستمر للأعاصير والأنواء المناخية؛ وذلك بسبب ظاهرة الاحتباس الحراري وتغير المناخ العالمي.
لقد حان الوقت لإعادة النظر في الاستراتيجيات المتعلقة بتخطيط الشوارع والمدن، فإعصار شاهين قد كشف المستور، خاصة المنازل التي غمرتها المياه في السويق والخابورة والمصنعة على وجه الخصوص، كما إن الطرق والشوارع في بلدنا تفتقد إلى هندسة تصريف مياه الأمطار والفيضانات على الرغم من مرور خمسين سنة على النَّهضة الشاملة. وقد كنت أسال نفسي دائمًا؛ أين الرعيل الأول من المهندسين العمانيين الذين ذهبوا إلى أعرق الجامعات في العالم لدراسة هندسة الطرق والهندسة المدنية بشكل عام في العقود الأولى من النهضة العُمانية؟ لماذا لا تخضع المشاريع الحكومية للدراسة الكافية وتنفذ بشكل علمي وسليم وتكتمل فيها جميع العناصر الضرورية لتقاوم التحديات المناخية والبيئية؟ أين جامعة السلطان قابوس كبيت خبرة معتمد من السلطان قابوس- طيب الله ثراه- والتي تحتضن واحدة من أفضل كليات الهندسة في الوطن العربي؟
لقد تابعتُ عن قرب أنين ومعاناة الناجين من الإعصار، وكانت المشاعر صادمة خلال الأيام الأولى، لكن الأوضاع تغيرت تدريجيًا بعد أن اكتمل عمل لجان الإيواء والإغاثة، والمساندة الفعالة من قطاعات قوات السلطان المسلحة وتشيكلاتها المختلفة وشرطة عمان السلطانية والفرق التطوعية. ولا شك أن قرار صرف مبلغ 1000 ريال عماني كمساعدة فورية للمتضررين، مثّل خطوة جيدة، لكن كان هناك اعتراض من بعض المواطنين على المُستندات المطلوبة، خاصة الإصرار على تقديم صور للأضرار التي لحقت بالبيوت، وكذلك ملكية المنازل؛ لكون هذه المنازل ضربها الإعصار بلا استثناء، وعدم تمكن معظم السكان من تصوير الأضرار بسبب المياه التي غمرت البيوت وضاعت على أثرها أجهزة الهواتف وملكيات البيوت التي هي أيضًا مطلوبة لصرف المساعدة.
وفي الختام.. على الجهات المختصة في هذا البلد العزيز الاستفادة من الفرق التطوعية من مختلف الأعمار الذين أثبتوا جدارتهم وبسالتهم في هذا الإعصار المُدمِّر؛ فهؤلاء ثروة وطنية يجب المحافظة عليها، وتدريبهم فنيًا على عمليات إزالة الأنقاض وإعمار المدن وإنقاذ الأرواح أثناء الحالات الطارئة، كما إنَّ التدريب على الإسعافات الأولية أصبح من الضروريات. وإننا لندعو من هذا المنبر وزارة التنمية الاجتماعية، إلى المبادرة بتاسيس مراكز تطوعية في مختلف أنحاء السلطنة، على أن تزود بمختلف الأجهزة والأدوات والمعدات الأساسية المتعلقة بالإنقاذ والإغاثة والإيواء، ودعوتها عند الحاجة، خاصة عند حصول كوارث وإعصار في أي جزء من هذا الوطن العزيز، وأن تكون هذه الفرق مساندة لفرق الدفاع المدني.
** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري