ليلة الإعصار.. الرّعب والملحمة

 

راشد بن سباع الغافري

حاولت جاهدًا تصوّر تلك الساعات التي مرّت بأهلنا في محافظة الباطنة شمال؛ لكن خيالي لم يسعفني جيدًا، فليس من يحاول تصوّر الحدث كمن عاشه فعلاً بتفاصيله الدقيقة.

مشاهد الدّمار وأهواله التي التقطت وشاهدناها أعطت جانبا بسيطا مما حدث فعلا، فالكاميرا وثقت ما بعد الكارثة أكثر من توثيقها لتلك الساعات الرهيبة. ليلة الإعصار بالتأكيد حملت الكثير من الرعب والخوف والهلع في نفوس الأطفال والأمهات بالذات.

إنِّها ليلة ذات ظلمات ثلاث حيث اجتمعت فيها حِلكة الليل، وسواد الغيوم، وانقطاع الكهرباء، وزادها رعباً صوت الريح الهوجاء الذي كان يصم الآذان ويحطم الأفئدة بقوة صفيره المزعج.

ليلة جاءت برائحة الغرق وهدم البيوت واقتلاع الشجر.. ليلة تعالى فيها صوت هدير المياه وتلاطمها وهي تشق طريقها وسط المخططات السكنية والمزارع لتقتلع الشوارع وتحفر الأساسات وتملأ البيوت بالماء والطين؛ حتى أجبرت الكثيرين من ساكنيها على الصعود إلى الأسطح، يلتحفون الغيوم ويفترشون برك المياه التي امتلأت بها تلك الأسقف، وسط صراخ أطفالهم والجيران من حولهم طلباً للنجاة وخوفاً مما هو آتٍ.

حاولت تصوّر هلع أم على أطفالها خشية أن يجرفهم تيار الماء في ذلك الظلام الدامس، وتصوّر إحساس أب ينتظر خبر الاطمئنان على سلامة أولاده أو أحفاده في ظل تقطع الطرق وانقطاع الاتصال، حاولت جاهدا تصوّر المشاعر التي لم يطلب أصحابها في تلك الساعات من زخرف الدنيا سوى السلامة لهم ولأحبابهم، لكنني لم أستطع.

تلك الليلة تَساوى فيها الجميع الغني والفقير القويّ والضعيف أمام شدة الأهوال، ولم يكن لديهم من خيار سوى التضرع والابتهال إلى الله أن تمر الساعات على خير.

هذه الليلة المرعبة بالتأكيد ستكون ملهمة لكثير من الأدباء والشعراء وكتاب القصة والرواية والمقال، كما ستلهم الفن بأنواعه؛ ولربما رأينا مستقبلا أفلاما ومسلسلات توثق للحدث، ورسومات تُعبّر عن الأحداث، وأناشيد تلهب المشاعر، وقد تعج المكتبات ودور النشر ومعارض الكتب بالعديد من المؤلفات والدراسات التي ستتحدث عن تلك الساعات الرهيبة، والتي تعتبر حدثًا مميزًا يؤرخه المؤرخون وتتناقله الأجيال ضمن أدب الأعاصير.

ليلة ستتكشف كثير من أحداثها وحقائقها بمرور الوقت، فلا شك أن لكل بيت ولكل أسرة قصة وحكاية مع أهوال ذلك الإعصار؛ ستجبرنا حين سماعها على نطق الكثير من عبارات الخوف والرجاء، وكلمات الشكر والتّرحم، وستظهر على ملامحنا علامات التعجب والاستغراب من أحداث بعضها لمفارقاتها العجيبة وأحداثها الرهيبة.

لكن رغم الألم في تلك الليلة الدامسة، فإن نور الفجر كان يُؤْذن بتبدد الظلمات وانقشاع السحب وعودة الأمل، وكانت عُمان قاطبة تتحضر من أقصاها إلى أقصاها للغوث ويمد يد العون في تطبيق واضح لحديث "المؤمن للمؤمن كالجسد الواحد"، فما بالك إن كان هذا المؤمن هو عُمانيّ مثلهم.

ومع زقزقة العصافير التي ضجت بها سماء الباطنة شمال مُعلنة رحيل الإعصار؛ إذ بملحمة التلاحم والتراحم يضج بها الكون هي الأخرى معلنة بكل وضوح أنها لا تقل حدثا عمّا حدث، حتى باتت تلك الهبّة مضرب مثلٍ.

إن استنهاض الهمم في درء مخاطر تلك الليلة القاسية وما خلفه شاهين الإعصار من دمار باتت ككتاب مفتوح، نقرأه عيانًا بالمشاهدة ونخطه فخرًا بالمشاركة، ونوثقه تأريخًا بالصورة الثابتة والمتحركة.

ليلة الإعصار جمعت النقيضين من دمار وإعمار وما كان بينهما من تشبث بالحياة ومن عزيمة وإصرار وصبر وقوة إيمان.

ستظل تلك الليلة حاضرة في نفوس الصغار والكبار ليس كما خطّها "شاهين" فقط؛ وإنما كما خطّتها أيادي التكاتف والسخاء من أبناء عُمان الأوفياء، ففي تلك الملحمة قصص ملهمة، لا تقل إلهامًا عن أحداث تلك الليلة المرعبة؛ حيث ستتقاسم أدبيات الإعصار ذلك الإلهام زمنًا طويلًا.

تعليق عبر الفيس بوك