لحظة احتياج مؤلمة!

 

عبدالله الفارسي

قبل أسبوعين وتحديدا ليلة انتصاف القمر واكتمال البدر، كنت أجلس قبالة البحر، الوقت بعد صلاة العشاء، القمر كان يتلألأ في باكورة أيامه، وعنفوان شبابه متباهياً بالعافية متراقصًا بالضياء، فاردا ضياءه، ضاحكا بملء أشداقه.

البحر جميل إلى حد مثير؛ رغم الروائح النتنة التي تنبعث منه بسبب أوساخ البشر، لكنها روائح مستساغة لأننا اعتدنا عليها منذ فترة طويلة فنحن من صنعناها، فلا أحد هنا في هذا المكان يهتم بنظافة البحر وطهارته وتقليم أظافره!

باختصار جلستي كانت رائعة مع نفسي، فأنا ماهر في الوحدة حصيف في الخلوات، الهواء رائق لطيف، يُداعب أطراف أصابعي وأنا أكتب هذه الكلمات، ويمسح عن رأسي إرهاق يوم دراسي ثقيل، كل شيء حولي ساكن.. هادئ.. وفجأة انتابني شعور بالحاجة. والشعور بالاحتياج إلى "روح" قريبة هو من أصعب المشاعر التي تضرب قلب الإنسان وتعصف بسكينته وتبعثر وجدانه. ليس المقصود بالحاجة هنا هو الحاجة إلى المال، لا؛ فكل من في الكوكب يحتاجون ويفكرون في المال، ويلهثون خلف المال ككلاب مسعورة، الأثرياء قبل الفقراء!

أقصد بالحاجة هنا هو الاحتياج إلى شيء معنوي، الحاجة إلى نفحة شاعرية، الحاجة إلى جرعة شعورية، الحاجة إلى لمسة من عاطفة ولقمة من حنان، الحاجة إلى وجود صديق مُقرب يكون بجانبك في تلك اللحظة.

الحاجة إلى إنسان/ إنسانة تشاركك هذه اللحظة الزمنية من عمر الكون الهائل الزائل، والتي تحاول أن تستمتع فيها، وتسرقها من فم الحياة المُخيف وتنتنزعها من بين أسنان الزمن المرعب المفترس.

الحاجة إلى رسالة نصية من صديق تشعل فيك جذوة البهجة، وتسكب نزرًا يسيرًا من المتعة على جدار عمرك الهارب على عجل.. الحاجة إلى رسالة صوتية صادقة دافئة من عزيز، تنتشي بها وتمزجها مع نشوتك التي تتسلق فؤادك.

هذا الاحتياج النفسي هو من أصعب الأحاسيس؛ التي تزعج هدوء النفس وتبعثر المشاعر وتقلبها رأسًا على عقب، إنها حاجة لاسعة قارسة تقرقع الفؤاد، وتترك أثرًا قاتمًا على صفحة القلب.

ليس هناك أسوأ من لحظة الاحتياج هذه، إنها لحظة مُؤلمة .. مُتعبة ومُزعجة للغاية، تحيل هدوءك إلى ضجيج، وتملأ قلبك بالهنين والخفقان والوجيب.

إنِّها لحظة تُخيم على النفس كسحابة سوداء تجتاح أفقك وتستولي على سمائك، كلما شعر الإنسان بفقدان شيء ما، شيء لطالما بحث عنه، وتاق إليه فباغتته لحظة الاحتياج إليه؛ لذلك ليس هناك أقوى من إنسان لا يشعر بالاحتياج إلى أحد.

ليس هناك أقوى من إنسان لا يكترث بأحد، لا يحتاج لمشاعر أحد، لا يعترف بأحد، وإذا اعترف فهو اعتراف ثانوي سطحي لا يصل إلى مركز القلب ولا يقترب من بوابة الروح، يعيش وكأنه هو الساكن الوحيد في هذا الكوكب؛ كأنَّه الأول وكأنَّه الآخر!

إنِّه إحساس إلهي لا يجوز للإنسان أن يعبئ به قلبه، ولكنه إحساس ضروري لقتل تلك المشاعر المؤلمة التي تكتسح لحظات انتصارك النفسي وإغلاق باب التفكير بالاحتياج إلى أحد ما.

إن قتل رغبة الاحتياج النفسي هي جريمة مباحة ومباركة ومشروعة، إنها تمنحك الصلاحية الكاملة المطلقة لممارسة حياتك دون الاستناد إلى أحد، دون الاتكاء على أحد ودون إكمال الطريق رفقة أحدهم، ودون انتظار الدعم الروحي من أحد.

إن مجرد رفض الجلوس بجانب أحدهم وطلب الاستسقاء من مشاعره هو كمال روحي وانتصار جنوني، الإنسان الذي يتمكن من الحياة دون الحاجة إلى أحد بجانبه، هو إنسان ملاك ليس بحاجة إلى الاعتماد النفسي على آخرين. إن الملائكة مخلوقات خارجة عن نطاق المألوف، لا علاقة لها بعالم الروح أو مناطق الأحاسيس ومراكز المشاعر.

بينما نحن البشر نألف بعضنا، ونشتهي بعضنا، ونحِن لصوت بعضنا، ونتلهف لسماع بعضنا، ونتشوق لملامسة بعضنا، إنها من أهم وأصعب الحاجات النفسية التي خلقت مع الإنسان.. وهي التي تعذبه وتجلده وتحرقه طوال حياته.

لذلك نحن نعيش أي لحظة احتياج كلحظة ألم .. واحتراق .. وعذاب .. وهنيئاً لمن لا تقتحمه لحظات الاحتياج.. ولا يعترف بوجودها في عالمه النفسي وفي ملكوته الروحي.