د. مجدي العفيفي
(1)
نعم .. المرأة العمانية جديرة بكل الاستحقاقات سواء التي نالتها من أيادي النهضة الحديثة، أم التي حصلت عليها بقدراتها العلمية والعملية وبانفتاح نظرة ومنظور الرجل لمسيرتها وبمباركة المجتمع في كليته، وفوق كل ذلك، بالغطاء الذهبي من قبل السلطان قابوس الذي كان يرى أن «إن الوطن في مسيرته يحتاج إلى كل من الرجل والمرأة، فهو بلا ريب، كالطائر الذي يعتمد على جناحيه في التحليق إلى آفاق السماوات، فكيف تكون حاله إذا كان أحد هذين الجناحين مهيضا منكسرا؟ هل يقوى على هذا التحليق؟».
(2)
وأشهد الله، أنَّ كل كلمة كتبتها.. وكل رؤية صغتها.. وكل أطروحة طيرتها إلى عشرات الوسائل الإعلامية المحلية والخارجية مكتوبة كانت أم مرئية أم مسموعة، أُشهد الله على أن البرنامج السردي لهذه الكتابات لم أسطِّرها بدافع الواجب، إنما بدافع «الرغبة» وشتان ما بين «مبدأ الواجب» و«مبدأ الرغبة» وأن هذا ينسحب على كل ما كتبته في مؤلفاتي، وعلى ما شغلته من مواقع صحفية وإعلامية ذات وزن ثقيل، تحركت فيها ولا أزال، وعلى رفوف المكتبة وضعت أكثر من عشرة مؤلفات، ومن ثم فإنَّ شهادتي ليست بمجروحة في تشكيل هذه السردية العمانية؛ لأنها مبنية على مشاهدات عينية وفؤادية معًا، وقاسمها المشترك هو الإنسان بمكوناته الأصيلة، والمجتمع بتناسجه الدقيق، والدولة بثوابتها ومتغيراتها.
(3)
إن للمرأة نصيب مفروض في كل كتاباتي؛ إذ حملت أشواقها وعذاباتها على ظهر قلمي منذ 50 عامًا، ولا أزال، قدمت صورتها وصوتها في كتبي ودراساتي التي وضعتها على رفوف المكتبة؛ ومنها «منظومة عمان النسائية» و«منظومة النور والخير والجمال» و«منظومة الثقافة العمانية» و«الشورى العمانية- الرؤية والأداة» و«ليلة في حب عمان» و«دار الأوبرا العمانية- نغم عماني إنساني» و«موسيقى الشرطة» وغيرها، وقدمت سيناريوهات لأفلام ومهرجانات عديدة منها مثالا، لا حصرًا، مهرجان الأزياء العمانية، مهرجان العيد الوطني، مهرجان التاتو، مهرجان الفروسية، الكوكب الأزرق، الآثار العمانية تبوح بأسرارها، كنوز البيئة، جماليات الطبيعة، المحميات الطبيعية في سلطنة عمان، وغيرها.
(4)
وتأسيسًا على ذلك، واستكمالًا لهذا الدور الفكري، وحتى يظل المصباح النسائي العماني متوهجا، عليه مواكبة العصر في أبعاده الإلكترونية، وفي غواية الميديا، وعندما أنظر وإناظر صورة المرأة في الميديا، أشعر بشجن يصل إلى حد الحزن.. لماذا؟
نحن في عالم كل شيء فيه ينسى بعد حين، لولا أن ثبت الله العالم ذاكرة الأيام وسخر من عباده وجنوده من يكتشف ويخترع ويشكل وسائل وأدوات عرفية ومعرفية وأخلاقية وجمالية - بغض النظر عن هوية هؤلاء وهؤلاء - فإنَّ الإنسان وإنسانيته هو القاسم المشترك فلا عنصرية ولا فردية في عالم اليوم، ولا يجوز ولا ينبغي، فكل أبناء هذا العالم يشاركون في تكنولوجيا اليوم والغد، بصورة أو بأخرى، فلا فضل لأحد، كائنا من كان، ولا لدولة ما بعينها، فالروح الجمعية والجماعية هي الأساس، ولعلها تدحض أباطيل من يزعمون أنهم يقودون العالم بما ينتج لهم من تقنيات حديثة، فمن يعتقد ذلك فهو إما جاهل وإما أجهل!
(5)
ولأننا في عالم، كل شيء فيه ينسى بعد حين، فلابُد إذن من التوثيق والتحقيق والتدقيق في كل خطوة يخطوها المجتمع، عبر عالم الميديا، وإعادة صياغة ما تم إنتاجه في بواكير سنوات النهضة العمانية، فيما يختص بخريطة المرأة التي تتكاثر مواقعها باستمرار، وتتخلق خلاياها بشكل ملفت للنظر، وأنا على ذلكم من الشاهدين.
أستدعي من ذاكرة الأيام والتحولات، ملامح مرحلة الأساس ومعالم عقد التأسيس، بعد أن تشكلت ملامح المجتمع الحديث رويدا رويدا، وكانت المؤسسة النسائية، إذا صح التعبير، من أوائل مؤسسات الدولة والمجتمع، وكانت المرأة على قوائم سلم أولويات القرار السياسي.
(6)
لكن المفارقة تتجلى في أن المرأة العمانية تفتقر إلى دراسات عنها، وتفتقد كتبا مستقلة تتناولها وتتجادل معها وتتحاور وتتفاعل، أرى ظلما نسبيا وقع عليها من أصحاب الأقلام ورجالات الفكر وأرباب القلم، إذ لم يقدموا مؤلفات خاصة بها، ودراسات مستقلة لها، إنما كل ماجاء عنها فصول أو بعض فصول وإشارات في كتب موسمية ومطبوعات مناسباتية ونشرات احتفالية، كل ذلك محمود إلا قليلا!
حقا .. ما أحوج المكتبة العمانية والعربية عامة إلى أن ترى وسائل في دنيا الميديا تحلل تحولاتها وتوثق مشاهدها، وتحقق عطاءاتها، وتدقق شواهدها، وتحلق في أجوائها، وتسرد خطابها الصادر منها وعنها - كما أشرت في مقال سابق هنا - وقلت إن هذا الفقر التوثيقي أدركته منى بنت محفوظ المنذري، فقدمت كتابها قبل عامين «المرأة العمانية مصباح لاينطفئ» من منظورها الإعلامي وهي الإعلامية القديرة وأول من قالت للعالم عبر الأثير الإذاعي عام 1970(هنا مسقط) وهي الشاهد على جماليات المرأة في عصر النَّهضة وتحولاتها، والمشاركة في بعدها الإعلامي صوتاً وصورة، وقد مزجت خبراتها الإعلامية بتجاربها الحياتية.
(7)
عاصرت جيل الرائدات العُمانيات، عن كثب، وبمنظور مجتمعي إنساني، ومشاهدة عينية وفؤادية، وبعدسة صحفية وفكرية، تحاورت معهن كثيراً، وسافرت في أعماقهن طويلاً، واستخرجت من بحورهن لآليء وجواهر برقت في عيون المجتمع والعالم ولا تزال، وتجاذبت معهن الجدليات المجدية، فتجلت ألفة لا تزال تتحدث بلغة الأعماق البعيدة.
بعض رموز جيل الرائدات رحل.. والشخص يموت لكن الشخصية تبقى.. وبعضهن لا يزال يجادلن الواقع العملي.. لكن.. بعضهن يعيش في المسافة المُتحركة بين الواقع وما وراء الواقع، وإن كنَّ آثرن الخلوة الحياتية- والخلوة جلوة- ومن هؤلاء هدى بنت عبد الله الغزالي.
(8)
كثيرة وعديدة ومهمة تلك المحطات التي انتظمت حياة هدى بنت عبد الله الغزالي، وهي التي وهبت حياتها وعنفوان عمرها لقضايا المرأة من أجل حياة أفضل ونظرة أكثر واقعية، كانت الومضة الأولى في حياتها العملية، عقب انتهاء دراستها الجامعية في إدارة الأعمال ببريطانيا عام 1974، وعودتها إلى مسقط، لتلتحق بالعمل في وزارة الدفاع، على مدار عشر سنوات، بعدها انطلقت في أداء رسالتها في مجال العمل الاجتماعي، فترأست أول مديرية لشؤون المرأة والطفل بوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل عام 1985، وظلت في هذا المجال حتى عام 1990 لتصبح مستشار وزير الشؤون الاجتماعية والعمل حتى عام 2000.
شكلت هدى الغزالي نواة بهذه الدائرة الجديدة كلية على تشكيلات المجتمع الحديث، والتي توهجت بالعطاء والحركة، فتفرعت منها عدة دوائر مثل دائرة المرأة، ودائرة الطفل، ودائرة الدراسات والبحوث، ودائرة جمعيات المرأة، وكانت الرؤية التي هيمنت على هذه المديرية، والنابعة من توجهات وتوجيهات القيادة، أنها همزة وصل واتصال بين المرأة والمجتمع المحلي والخارجي، تقوم بتخطيط العديد من البرامج والنشاطات الهادفة إلى انخراط المرأة في عملية التنمية وزيادة مساهمتها في العمل الاجتماعي.
(9)
أسهمت هدى الغزالي مع بنات جيلها في العقود الثلاثة الأولى من مسيرة النهضة، في إقناع القيادة السياسية بإعطاء ابنة عمان دورا محوريا وجعلها مرتكزا تأسيسيا في مسيرة المجتمع، خاصة وأن حالتها كانت قبل عام 1970 كانت تشبه حالة اللؤلؤ، ذلك المخلوق الضعيف، والكائن القوي الجميل، الذي يحتمي بين شفتين من المحار، وعندما يتفتح ليتغذى، تدخل بعض الأشياء العالقة في الماء إليه داخل القوقعة وبالتالي ترتفع درجة حرارته، فينطوي على نفسه، ويفرز مادة اللؤلؤ البيضاء، ثم يبعد عن الشاطئ وعن سطح الماء، ليظل مغلقا.. هادئا.. حزينا، وتمضي به الأيام وهو يفرز ألمه الشفاف، إلى أن تمتد إليه يد إنسان تفتح شفتيه وتستخرج منه حبة اللؤلؤ.. وقد تم استخراجها.
واستطاعت أن تؤقلم ذاتها، في كل طريق شقته، وفي كل مجال سلكته، وفي كل منصب تولته، وفي كل تجربة تحاورت معها شكلا ومضمونا، لتشكل من كل أولئك، أكثر من ظاهرة تستقطب الرصد والتحليل، لاسيما وأن ملامحها قد تبلورت وخصائصها تجاوزت الفردية، لتُصبح ظاهرة مُستقرة وعملية مستمرة، تأسيسًا على الوضوح في الرؤية، والتجديد في الأداء، والجدية في الطرح.
(10)
شاركت هدى الغزالي مشاركة خلاقة في الدفع بجمعيات المرأة العُمانية لتتكاثر في أنحاء السلطنة إذ توالت هذه المنظومة لتسهم في بلوغ المرأة المكانة التي تتمتع بها في المجتمع وأن جمعيات المرأة العمانية تشكل مصابيح اجتماعية، تنشر الوعي، وتخدم التنمية، وقد امتزجت حركة جمعيات المرأة العمانية بحركة المجتمع ككل، تنفعل بالأحداث، وتتفاعل مع التحولات، وتتجاوب بالأنشطة والفعاليات.
وكلنا يذكر أنَّ أول قطرة عطاء للمرأة العمانية، كانت بعد قيام النهضة بشهرين فقط، ففي سبتمبر من عام 1970 خرجت أول جمعية للمرأة العمانية بمسقط إلى النور. ومن ثم فهي تعتبر من أولى المؤسسات الاجتماعية، وكانت الجمعية بمثابة المصباح الذي راح يضيء الطريق لها ويفسح مساحة لتتحرك فيها، ومن ثم كان التحدي أمام المرأة العمانية آنذاك: تكون أو لا تكون، وقد كانت، حتى استحوذت على ثقة القيادة.
...........
ولهذه السردية بقية.. إن كان في العمر بقية.