مآثر الأجداد المُلهمة

سعيد بن محمد الجحفلي

الذكرى نبأٌ بمحامد، أو عيبٌ بنقيصة، ولكل جيلٍ حكاياته التي تُروى في مواقف تُدوّنها سِجلات ذاكرته، لتبقى عِبرة وبصيرة لمن يتوارثها، توفيرًا لمسافاتٍ من الجهد والتفكّر في معترك كل جيل.

وهنا سوف أذكر بإيجازٍ، دون تحليل، مواقف مُلهمة لرجالٍ نذروا أنفسهم وأموالهم لخدمة بني جلدتهم، فدافعوا عمّا يرونه صوابًا، فنصروا، وأجاروا، وأطعموا دون شُح أو تطلّع، فمواقف المروءة لا يقوم بها إلا أفذاذ الرجال، الذين تجد في حضورهم أنسًا، وفي قدومهم بشرى، وفي غيابهم وحشة واستيحاشًا.

وتتبّع سير الأولين واقتفاء آثارهم فيه من العِبر والدروس، ما يهون كل شاق لمن يريد أن يخدم مجتمعه ووطنه وأمته، والزمن الذي نعيشه فيه الوفرة من كل شيء، وفيه من جوائح الأضرار ما يُنهك ويُعطل أجمل ما في الناس من محامد، ولنا أن نرى ما يسفّ بالأمة من خذلان وأنانية وقلة مروءة، وهذه المضار تُعجّل بنُذرها السيئة في مختلف جوانب حياة الإنسان العربي أينما كان.

وفي الوقت الذي أستدعي فيه بعُجالة أحداث هذه السطور لأُذكّر بصفات النخوة العربية، نرى أن أهل غزة قد خاب ظنّهم بأشقائهم العرب، في مأساةٍ لم يشهد التاريخ مثيلًا لها، لا قديمًا ولا حديثًا... فإخوة يوسف كانوا أرحم بأخيهم عندما ألقوه في الجُبّ، ولم يُغلقوا عليه فتحته، لينقذه "السَيَّارة" الذين استوصوا به خيرًا، أما إخوة أهل غزة فقد أغلقوا عليهم سُبل النجاة، حتى لا يُحمل إليهم الغذاء والدواء، فضاعت المروءة، وأُهينت الأخلاق... فاللهم عجل بفرجك لأهل غزة.

وهنا أذكرُ بما سمعناه من الرواة الثقات عن موقفين حدثا قبل أكثر من ثمانين عامًا تقريبًا في محافظة ظفار.

ففي مساء يوم خريفي مُثقلٍ بهموم الحياة وشظف العيش، خرج الشيخ مسلم من مدينة صلالة متوجهًا إلى قريته في أحد مضارب جبال ظفار، بعد أن قضى أسبوعًا كاملًا في ساحة برزة الحصن، التي يقصدها دائمًا مع عدد من كبار شيوخ وأعيان ظفار، للنظر في شكاوى المواطنين ومشاكل الرعية برئاسة السلطان سعيد بن تيمور أو والي ظفار.

وبعد انتهاء مهمته من جلسات البرزة، توجّه الشيخ مسلم إلى سوق الحافة، لعله يجد ما يتزود به من طعام لأسرته وجيرانه الذين ينتظرون قدومه بفارغ الصبر، ولكن ضعف حركة السوق وقلة المعروض من المؤن، كان أثره واضحًا في عدم حصوله على ما يكفي من مؤونة للذين ينتظرونه. وأثناء سيره نحو دياره، قابل رجلًا من منطقة أخرى، خرج للتو من المدينة خالي اليدين، مما يمكن أن يُقدّمه لأسرته من طعام، فسلّم عليه الشيخ مسلم وسأله عن حاله، فندب الرجل حظّه، وأخبره أنه نزل إلى المدينة ولم يجد طعامًا يشتريه لأسرته، وأن أولاده يتضورون جوعًا بعد أن جفّ الضرع، وانحسر الزرع، لتأخر أمطار الخريف عن موعدها.

وهنا دفع الشيخ كل ما عنده من طعام إلى الرجل، رغم حاجته الماسة إليه، وقال: هذا يسدّ رمق أطفالك عدة أيام، أما أنا فأسرتي كبيرة، ولا يكفيها ما عندي، فشكره الرجل على كرمه وسخائه المعهود، فهو معروف بعدم خذلانه من قصد داره لحاجة أبدًا، وكأن قوله تعالى ينطبق عليه: "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة".

واصل كلٌّ منهما طريقه نحو دياره... وصل الشيخ مسلم إلى داره، واجتمع حوله الناس كالعادة منتظرين المؤونة التي يجلبها معه من المدينة، فأخبرهم أنه لم يجد طعامًا هذه المرة، ولهذا اشترى بقرة أحد جيرانه بالدَّين، وقال: اذبحوها وتقاسموها، وليكن لصاحب البقرة قسمته مثلكم.

هذه الخصال النبيلة، والمآثر الكريمة، من يتصف بها أيام القحط والجدب، ينطبق عليه قول الشاعر:

تأبى المروءةُ أن تُفارقَ أهلَها

إنّ المروءَةَ في الرجالِ خصالُ

أما في جبل القمر، الرابض على سلسلة جبال رخيوت العالية، فهناك حكاية أخرى، حيث وقف الشيخ أحمد ينادي ابنه أن يُهيئ المكان الذي ستبرك فيه إبلهُم بجانب الطريق الرئيسي، الذي يربط صلالة بالمناطق الغربية وببلاد المهرة في الجانب اليمني الشقيق. فمن خلاله يعبر الناس شرقًا وغربًا، كلٌّ في حاجته.

ردّ الابن لأبيه قائلًا: إن موسم القيظ قد بدأ، وإن المرعى شحيح هنا، ونريد أن نرحل بالإبل إلى المناطق الأكثر خُصبًا وأوفر كلأً على حواف الجبال مثل بقية ملاك الإبل. فرد عليه الوالد مستنكرًا: يا ولدي، إذا ضعنّا من هنا، فمن لهؤلاء الناس الذين يستغلون هذا الطريق المقطوع ذهابًا وإيابًا، ولا يجدون من يُطعمهم ولا يُسقيهم في هجير هذا القيظ الحار؟ وإن معظم الأسر كما تعرف قد نزحت بعيدًا، وتركت مضارب سكناها خالية.

وأردف حالفًا: لن نبرح هذا المكان الذي نحن فيه، مهما كان وجودنا شاقًا لنا ولحيواناتنا، لأننا نُحيي ببقائنا هنا من تقطعت بهم السُبل، يا ولدي، اسرح بالإبل حيثما شئت، وفي المساء عُد بهن إلى معطنهن هذا، ليشرب من حليبهن المسافر الجائع، ويستأمن عندنا الخائف الغريب.

نفذ الابن تعليمات والده، لأنه لا يقل كرمًا ولا مروءة عن والده، فقد تربى على ما يعزّه وينجيه من كريم الخصال، وعندما أشار إلى والده بما يراه ضرورة، فلأنه يرعى الإبل ويعرف أن المنطقة كلها أصبحت غير صالحة للرعي بسبب الجفاف الشديد الذي ضربها.

هذه المواقف مسؤولية مجتمعية مكتملة الأركان، ألزم الشيخ أحمد نفسه بها لرفد المحتاج، وإغاثة الملهوف، وإعانة الغريب، حيث تظهر معادن الناس وكرمهم الأصيل المتوارث أبًا عن جد. فعلى الرغم من ضيق الحال وعسر الحياة في تلك السنين الجديبة، إلا أن الكرم والإيثار هما الصفتان السائدتان في ذلك الزمن، فالناس في تعاون وتبادل للمنافع.

لذلك لم نسمع بأي أخبار تُروى أن المجاعة أهلكت جماعات من الناس في ظفار قديمًا مثل بعض البلدان، لأن التكافل هو السِمة العامة لدى المجتمع الظفاري، ولا تزال هذه ميزة موجودة إلى يومنا هذا، مثل الرفد في الأعراس والمآتم، ومساعدة المعسرين من أصحاب الديون والدّيات.

وإلى موعدٍ آخر مع مواقف أخرى من سير الأجداد.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة