أيام زنجبار الأخيرة

 

 

يوسف عوض العازمي

alzmi1969@

 

"قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ" (آل عمران: 26)

 

أحداث التاريخ تتأرجح بين الغموض اللافت والوضوح الغامض، ويواجه الكثير من الباحثين إشكالية عظمى أثناء تتبع المصادر والمراجع، حين يكتشف الباحث بأن المؤرخ المزمع الاستقاء من كتابه أو بحثه قد كتب جزءا كبيرا بحسب وجهة نظره، لابحسب المعلومات الحقيقية (وهي الأهم) لذلك يبقى الهاجس وتبعات النفس الإنسانية وعواطفها يسجلان حضورا صارخا في كتابة التاريخ، إلا من رحم الله.

منذ أشهر أعايش تجربة كتابة بحث تاريخي/ سياسي عن أسباب سقوط الحكم العربي في زنجبار، وهي الجزيرة المعروفة القريبة لسواحل شرق أفريقيا، وفي الحقيقة اكتشفت أنه رغم الوقت القريب زمنيًا لسقوط هذه السلطنة العربية الشهيرة إلا أن مصادر التاريخ ومراجعه وحتى المصادر ذات السمة السياسية لم تكن حسبما هو ممكنا للدراسة البحثية التحليلية؛ إذ تستطيع القول إن جل المصادر والمراجع تقريبًا ذات فهم متشابه (لم اقل موحدًا!) ولا أعلم ما السبب: هل هو خشية من تبعات قانونية وربما أمنية؟ أم عدم الحماس أو عدم توفر الإمكانيات اللازمة لإجراء بحث علمي يسجل الوقائع ويحللها بثقة وإتزان وحيادية ومهنية وأمانة علمية؟

نرجع للحدث وهو أنه أطاحت ثورة في زنجبار سنة 1964 بالسلطان جمشيد بن عبد الله وحكومته المكونة بشكل أساسي من العرب عن طريق المتمردين الأفارقة المحليين. وسلطنة زنجبار الواقعة شرق تنجانيقا نالت الاستقلال من بريطانيا سنة 1963م، وبعد الاستقلال أجريت انتخابات نيابية أسفرت عن تأكيد بقاء العرب على سيطرتهم على الحكم كنتيجة الموروث باعتبارها جزء من الحكم العماني في تلك المنطقة. فأصاب الإحباط تحالف حزب أفرو شيرازي (ASP) مع حزب الأمة اليساري بسبب التمثيل البرلماني الناقص على الرغم من الفوز بنسبة 54% من الأصوات في انتخابات يوليو 1963، مما حرك جون أوكيلو عضو حزب أفروشيرازي حوالي 600- 800 من المتمردين صبيحة يوم 12 يناير 1964 في الجزيرة الكبرى أنغوجا، فاحتل مراكز الشرطة واستولى على أسلحتهم، ثم تقدم نحو العاصمة ستون تاون؛ حيث أطاحوا بالسلطان وبحكومته. ثم بدأ الحزب بارتكاب عدة مجازر بحق العرب والآسيويين (جلهم من العمانيين ذوي النفوذ في الجزيرة)، وقد قُدر عدد الضحايا المدنيين نتيجة تلك الثورة من عدة مئات إلى 20000 شخص، وبعدها جيئ بزعيم حزب أفروشيرازي عبيد كرومي لينصب رئيسًا وقائدًا للدولة الجديدة، وكذلك تم منح حزب الأمة مواقع في السلطة الجديدة. (1)

في تلك الأثناء، استطاع السلطان جمشيد بن عبدالله الانتقال إلى عدة دول إلى أن استقر به المقام في بريطانيا (2)، وبطبيعة الأحداث انتشرت عدة شائعات؛ بل وتم كتابة كتب تاريخية بناء على هذه الإشاعات!

هناك من زعم أن الثورة مدعومة من الزعيم العربي القومي جمال عبدالناصر نظرًا لمُناهضته أي أنظمة ملكية أو سلطانية أو أميرية، وأن عددا من قادة الثوار تدربوا في مصر، وهناك من قال إنَّ الثورة أساسًا بدأت نسج خيوطها الأولى في تنجانيغا التي تم ضم زنجبار إليها وأصبحت تنزانيا فيما بعد، وهناك من ذهب إلى أن ما جرى هو بالأصل مؤامرة من داخل النظام، وأحاديث كثيرة وكلٌ يزعم صحة معلوماته!

الأقرب حسب ما وصلتُ إليه أن هذه الجزيرة التي حكمها العمانيون 3 قرون منذ أسرة اليعاربة في القرن السابع عشر الميلادى إلى أسرة البوسعيد حتى 1964م، لم تسقط بدافع الثورة، كما زعم كثير من المؤرخين أو بسبب مؤمرات داخلية أدت إلى ما جرى فيما بعد من مآسٍ (هي من ضمن الأسباب وليست السبب الرئيسي)؛ بل إن الموضوع فيه شق سياسي يخص السياسة المحلية والنفوذ الكبير للتجار الهنود الذين كانوا يتحكمون بأهم محاور التجارة في تلك السلطنة، وكانت أهم مناطق النفوذ لهم الميناء. وقتذاك كانت تجارة الرق في أوجها، وتقسمت الفوائد بين التجار والسُلطة، وإن كان للتجار النصيب الأعظم، وأيضًا لاحظت من خلال البحث أن السلطان جمشيد لم يكن له مستشارين ذوي رأي سديد ويعرفون أمور الناس وينقلون الصورة الحقيقية للحاكم، أو لم يسمع لهم إن كانوا قد قدموا الاستشارات اللازمة، ذلك أن الجزيرة متوزعة النفوذ بين الحاكم والتجار، كذلك بدا أن الجبهة الداخلية بسبب ما سبق لم تكن على ما يرام، مما أدى إلى الانهيار السريع، كذلك الجيش لم يكن على استعداد كافٍ، وأيضًا ضعف مؤسسة الاستخبارات التي لم تتنبأ بالقادم (أو لم يسمع لها) وغيرها من الأسباب التي كانت أرضًا خصبة لتسهيل السقوط وبعده الأحداث الدموية!

قرأتُ تقريبًا أكثر من 70 مصدرًا ومرجعًا، وللأسف أكثر المعلومات متشابهة، لذلك ركزت على عدد قليل جدًا مما وجدت فيه الفائدة، والمعلومات المتضاربة تعطي زخمًا للحدث؛ حيث يتم تفكيكها لمحاولة الوصول إلى أقرب صورة مناسبة لما حدث..

إن التاريخ أمانة قبل أي شيء، ومن لا يستطيع حملها، فعليه الوقوف جانبًا.

 

 

_______________

 

  1. مصادر متنوعة.
  2. حاليًا يقيم في مسقط (سلطنة عمان).